ولكن لما كان ذلك نفيًا للإيمان مع وجود الإنذار، وكان معناه: أن البغية المرومة بالإنذار غير حاصلة، وهي الإيمان؛ قفي بقوله:{إنَّمَا تُنذِرُ} على معنى: إنما تحصل البغية بإنذارك من غير هؤلاء المنذرين، وهم المتبعون للذكر -وهو القرآن، أو الوعظ- الخاشون ربهم.
وقلت: توجيه السؤال أن قوله: {إنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} يستدعي سبق عدم الإنذار، أي: إنك لا تنذر من لم يتبع الذكر، وإنما تنذر من اتبعه، فكيف أثبت الإنذار بقوله:{وسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ} ثم عقبه بقوله: {إنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ}؟ وحاصل الجواب: أنه نزل وجود الإنذار الذي لم يفض إلى المقصود منزلة العدم، كأنه قيل: ما أنذرت أولئك لأنهم لم يؤمنوا، إنما تنذر هؤلاء الذين انتفعوا به.
قال صاحب "المفتاح" - في قوله:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَن يَخْشَاهَا}[النازعات: ٤٥]-: لا يخفى على أحد ممن به مسكة أن الإنذار إنما يكون إنذارًا ويكون له تأثير إذا كان مع من يؤمن بالله والبعث والقيامة وأهوالها.
والنظم يساعد عليه، لأن أصل الكلام وارد على تقسيم المنذرين، وذلك أن قوله:{إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ}{لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ} مطلق شامل في المنذرين الذين لا ينفع فيهم الإنذار وفيمن ينفع فيهم ذلك، ثم قسم المنذرين في قوله:{لَقَدْ حَقَّ القَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} على قسمين، وحكم على أكثرهم أنهم لا يؤمنون، وأكد ذلك بالجملة القسمية، وسجله بسبق التقدير كما تعلق بهم هذا القول، أي: قوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}[هود: ١١٩] وثبت عليهم ووجب، ثم علل ذلك بخلق الكفر فيهم وجعلهم مصممين عليه، وآذن حبيبه صلوات الله عليه بالإياس عنهم بقوله:{وسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}، وجعله كالتخلص إلى ذكر الفريق الأقلين وهم المتبعون للذكر الخاشون ربهم، ولهذا التقرير البليغ والتقدير المقتضي ينبغي أن يستسلم العاقل ولا يكابر النص القاطع.