"من" مقدرة على "بين" الثانية؛ لأنه جعلها مقيدة للابتداء، فكأنه قيل: ومن بيننا ومن بينك حجاب، وهو غلط، فإن لا يصح معها إعادة عامل؛ لأنه يجعل "بين" داخلة على المفرد، ومن شأنها الدخول على متعدد، وقد زاد على هذا بأن جعل الأولى الحجاب من جهتهم، والثانية من جهته، وليس كذلك، والأولى هي الثانية بعينها وهي عبارة عن الجهة المتوسطة بين المضافين، وتكرارها إنما كان لأن المعطوف عليه مضمر مخفوض يوجب تكرار خافضه، ولا تفاوت بين قولك: حلت بين زيد وعمرو، وحلت بين زيد وبين عمرو. وأما ذكرها مع الظاهر فجائز ومع المضمر واجب، فالصحيح أنها ها هنا مثل {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا}[يس: ٩] للإشعار بأن الجهة المتوسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم مبدأ الحجاب، ووجود "من" قريب من عدمها لقوله تعالى: {جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا}[الإسراء: ٤٥] بغير "من".
وفي هذه الآية مبالغات بثلاثة حجب: أحدها: الحجاب الخارج، ثم حجاب الصمم، ثم حجاب أكنة قلوبهم، نعوذ بالله من ذلك.
وقلت: حاصل المعنى أن "بين"تقتضي متعددًا، وليس بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم حجاب واحد، وهو متعدد معنى ولم يفتقر إلى تقدير حجاب آخرـ، ثم زيف قوله:"فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة" وهو عمله لقولهم بعد ذلك: {فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ} مرتبًا بالفاء، أي: اعمل أنت فيما يتعلق بك وبجهتك من إثبات نبوتك بأي طريق كان، ومن الدعوة إلى التوحيد والمنع من تقليد الآباء وغير ذلك على قدر جهدك وطاقتك، ونعمل نحن بقدر وسعنا فيما يتعلق بنا وبجهتنا من الدفع لرسالتك والثبات على الشرك وتقليد الآباء، فظهر أن "بين" ها هنا معبر عن المسافة والجهة بواسطة "من" الابتدائية، والبين المذكور في الكتاب لازم المعنى، وسنبين إن شاء الله أن مغزى قولهم هو أنك تزعم أن لك دليلًا على إثبات نبوتك بإقامة المعجزة، ونحن ندعي أن لنا دليلًا على نفيها عنك؛ لأنك بشر، وأنى يقع الاتفاق بيننا وبينك؟ وإن شئت فذق هذا مع قول الشاعر: