والمعنى: أنك رأيت آثار فعل الله بالحبشة، وسمعت الأخبار به متواترة، فقامت لك مقام المشاهدة. و (كَيْفَ) في موضع نصب بـ (فعل ربك)، لا بـ (ألم تر)؛ لما في (كَيْفَ) من معنى الاستفهام (فِي تَضْلِيلٍ) في تضييع وإبطال. يقال: ضلل كيده، إذا جعله ضالًا ضائعًا. ومنه قوله تعالى:(وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ)] غافر: ٢٥ [، وقيل لامرئ القيس: الملك الضليل؛ لأنه ضلل ملك أبيه، أي: ضيعه، يعنى: أنهم كادوا البيت أوّلا ببناء القليس، وأرادوا أن ينسخوا أمره بصرف وجوه الحاج إليه، فضلل كيدهم بإيقاع الحريق فيه؛ وكادوه ثانيًا بإرادة هدمه، فضلل بإرسال الطير عليهم (أَبابِيلَ) حزائق،
قوله:(والمعنى: أنك رأيت آثار فعل الله بالحبشة)، قال القاضي:" {أَلَمْ تَرَ}: خطاب لرسول الله? ، وهو وإن لم يشهد تلك الموقعة، لكن شاهد آثارها وسمع بالتواتر أخبارها، فكأنه رآها. وإنما قيل: "كيف فعل"، ولم يقل: ما فعل، لأن المراد أن يُذكر ما فيها من وجوه الدلالة على كمال علم الله وقدرته، وعزة نبيه وشرف رسوله، لأنها من الإرهاصات".
وقال الإمام:"الأشياء لها ذوات ولها كيفيات، والكيفيات هي التي يُسميها المتكلمون "وجه الدليل"، واستحقاق المدح إنما يحصل برؤية الكيفيات لا برؤية الذوات، ولهذا قال:{أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا}[ق: ٦]. ولا شك أن هذه الواقعة كانت تأسيساً لنبوته وإرهاصاً لرسالته"، وهو من الرِّهص: الساق الأسفل من الجدار، وذلك أن يتقدم على دعوى النبوة ما يشبه المعجزة، كإظلال الغمام لرسول الله? ، وتكلم الحجر والمدر معه.