أَنَّ أَهْلَ صِفِّينَ لَمَّا كَادُوا أَنْ يُغْلَبُوا أَشَارَ عَلَيْهِمْ بَعْضُهُمْ بِرَفْعِ الْمَصَاحِفِ، وَالدُّعَاءِ إلَى التَّحْكِيمِ، فَنَهَاهُمْ عَلِيٌّ عَنْ إجَابَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ: إنَّا عَلَى الْحَقِّ، فَأَبَى أَكْثَرُهُمْ، فَأَجَابَهُمْ عَلِيٌّ لِتَحَقُّقِهِ أَنَّ الْحَقَّ بِيَدِهِ، فَحَصَلَ مِنْ اخْتِلَافِ الْحُكْمَيْنِ مَا أَوْجَبَ رُجُوعَ أَهْلِ الشَّامِ مَعَ مُعَاوِيَةَ، وَرُجُوعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَعَ عَلِيٍّ بَعْدَ التَّحْكِيمِ، فَأَنْكَرَتْ الْخَوَارِجُ التَّحْكِيمَ، وَقَالُوا: لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ، وَحَكَمُوا بِكُفْرِ عَلِيٍّ وَجَمِيعِ مَنْ أَجَابَ إلَى التَّحْكِيمِ، إلَّا مِنْ تَابَ وَرَجَعَ، وَقَالُوا لِعَلِيٍّ: أَقِرَّ عَلَى نَفْسِك بِالْكُفْرِ، ثُمَّ تُبْ، وَنَحْنُ نُطَاوِعُك، فَأَبَى فَخَرَجُوا عَلَيْهِ وَقَاتَلَهُمْ، وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُورٌ عَنْهُمْ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي التَّوَارِيخِ الثَّابِتَةِ، وَالْمِلَلِ وَالنِّحَلِ، وَقَدْ اسْتَوْفَى أَخْبَارَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ فِي كَامِلِهِ وَغَيْرُهُ، وَصَنَّفَ فِي أَخْبَارِهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ قَدَامَةَ الْجَوْهَرِيُّ كِتَابًا حَافِلًا، وَقَفْت عَلَيْهِ فِي نُسْخَةٍ كُتِبَتْ عَنْهُ، وَتَارِيخُهَا سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ أَقْدَمُ خَطٍّ وَقَفْت عَلَيْهِ، وَلَمْ يَعْتَقِدْ الْخَوَارِجُ قَطُّ أَنَّ عَلِيًّا أَخْطَأَ قَبْلَ التَّحْكِيمِ، كَمَا أَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَا اعْتَقَدُوا مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ الْفَاسِدَةِ: أَنَّ عُثْمَانَ كَانَ مُصِيبًا سِتَّ سِنِينَ مِنْ خِلَافَتِهِ، ثُمَّ كَفَرَ بِزَعْمِهِمْ أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، نَعَمْ الَّذِينَ كَانُوا يَتَأَوَّلُونَ فِي قِتَالِ عَلِيٍّ، بِسَبَبِ عَدَمِ اقْتِصَاصِهِ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ، وَيَظُنُّونَ فِيهِ سَائِرَ مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ قَبْلَ قَوْلِهِ وَيَعْتَقِدُونَ، هُمْ أَهْلُ الْجَمَلِ وَأَهْلُ صِفِّينَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي مُكَاتَبَاتِهِمْ لَهُ وَمُخَاطَبَاتِهِمْ، وَأَمَّا سَائِرُ مَا ذُكِرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ الْخَوَارِجِ مِنْ الِاعْتِقَادِ فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَبَعْضٌ مِنْهُ اعْتِقَادُهُمْ كُفْرَ مَنْ خَالَفَهُمْ، وَاسْتِبَاحَةَ مَالِهِ وَدَمِهِ، وَدِمَاءِ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، وَلِذَلِكَ كَانُوا يَقْتُلُونَ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَمْرِ ابْن مُلْجَمٍ فِي تَأْوِيلِهِ فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَبَالَغَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي أَنَّ ابْنَ مُلْجَمٍ قَتَلَ عَلِيًّا مُتَأَوِّلًا مُجْتَهِدًا مُقَدِّرًا أَنَّهُ عَلَى الصَّوَابِ، كَذَا قَالَ، وَهَذَا الْكَلَامُ لَا خِلَافَ فِي بُطْلَانِهِ، إلَّا إنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ كَذَلِكَ كَانَ عِنْدَ نَفْسِهِ، فَنَعَمْ، وَإِلَّا فَلَمْ يَكُنْ ابْنُ مُلْجَمٍ قَطُّ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَلَا كَادَ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْخَوَارِجِ، وَقَدْ وَصَفْنَا سَبَبَ خُرُوجِهِمْ عَلَى عَلِيٍّ، وَاعْتِقَادِهِمْ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ، وَأَمَّا قِصَّةُ قَتْلِهِ لِعَلِيٍّ وَسَبَبُهَا، فَقَدْ رَوَاهَا الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فِي تَرْجَمَةِ عَلِيٍّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ انْقِطَاعٌ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ بَيْنَ أَهْلِ التَّارِيخِ، وَسَاقَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ مُطَوَّلًا. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي قِصَّةِ قَطَامِ، فَظَاهِرُهُ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ: لِأَنَّ الْمَحْفُوظَ أَنَّهَا شَرَطَتْ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَهْرًا، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي سِيَاقِ الشِّعْرِ الْمَذْكُورِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute