{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: ٣٠] » .
وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ قَالَ وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ مُتَّكِئًا قَالَ وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَقَوْلُ الزُّورِ فَمَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ» أَيْ شَفَقَةً عَلَيْهِ وَقَالَ فِي الْمُلْتَقَى وَمَنْ عُلِمَ أَنَّهُ شَهِدَ زُورًا يُشَهَّرُ وَلَا يُعَزَّرُ وَعِنْدَهُمَا يُوجَعُ ضَرْبًا وَيُحْبَسُ وَقَالَ فِي التَّنْوِيرِ مَنْ ظَهَرَ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ عُزِّرَ بِالتَّشْهِيرِ وَقَالَ فِي شَرْحِهِ مَنْ ظَهَرَ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ بِأَنْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ وَلَمْ يَدَّعِ سَهْوًا وَلَا غَلَطًا كَمَا حَرَّرَهُ ابْنُ الْكَمَالِ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ النَّفْيِ عُزِّرَ بِالتَّشْهِيرِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى سِرَاجِيَّةٌ وَزَادَا ضَرْبَهُ وَحَبْسَهُ مَجْمَعٌ وَفِي الْبَحْرِ ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُسَخِّمَ وَجْهَهُ إذَا رَآهُ سِيَاسَةً اهـ وَقَالَ فِي صَدْرِ الشَّرِيعَةِ وَمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ شَهِدَ زُورًا يُشَهَّرُ وَلَمْ يُعَزَّرْ وَقَدْ قِيلَ إنْ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ لَا تُعْلَمُ إلَّا بِالْإِقْرَارِ وَلَا تُعْلَمُ بِالْبَيِّنَةِ.
(أَقُولُ) قَدْ تُعْلَمُ بِدُونِ الْإِقْرَارِ كَمَا إذَا شَهِدَ بِمَوْتِ زَيْدٍ أَوْ بِأَنَّ فُلَانًا قَتَلَهُ ثُمَّ ظَهَرَ زَيْدٌ حَيًّا وَكَذَا إذَا شُهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَمَضَى ثَلَاثُونَ يَوْمًا وَلَيْسَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ وَلَمْ يُرَ الْهِلَالُ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ اهـ وَأَمَّا الْمُدَّعِي فَإِنَّهُ قَدْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً بِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ ارْتَكَبَ الْكَذِبَ وَقَدْ آذَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي دَعْوَاهُ عَلَيْهِ فَيُعَزَّرُ قَالَ فِي التَّنْوِيرِ وَغَيْرِهِ وَعُزِّرَ كُلُّ مُرْتَكِبِ مُنْكِرٍ أَوْ مُؤْذِي مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَلَوْ بِغَمْزِ الْعَيْنِ قَالَ فِي شَرْحِ التَّنْوِيرِ أَوْ إشَارَةٍ؛ لِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ كَمَا يَأْتِي فِي الْحَظْرِ فَمُرْتَكِبُهُ مُرْتَكِبُ مُحَرَّمٍ وَكُلُّ مُرْتَكِبِ مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا فِيهَا التَّعْزِيرُ. أَشْبَاهٌ اهـ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ الْعَلَامَةُ ابْنُ نُجَيْمٍ إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ فِي حَادِثَةٍ وَزَكَّاهُمَا اثْنَانِ فَظَهَرَ أَنَّهُمَا شَهِدَا زُورًا فَهَلْ عَلَى مَنْ زَكَّاهُمَا ضَمَانٌ أَوْ تَعْزِيرٌ أَجَابَ لَا ضَمَانَ وَلَا تَعْزِيرَ عَلَى مَنْ زَكَّاهُمَا.
(سُئِلَ) فِيمَا إذَا رَجَعَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ عَنْ شَهَادَتِهِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَالَ إنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ فَهَلْ لَا يُنْقَضُ الْقَضَاءُ بِرُجُوعِهِ وَيَضْمَنُ نِصْفَ الْمَالِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيُعَزَّرُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ؟
(الْجَوَابُ) : نَعَمْ لَا يُنْقَضُ الْقَضَاءُ بِرُجُوعِهِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ إذَا رَجَعَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي بَعْدَ الْحُكْمِ لَا يُفْسَخُ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ آخِرَ كَلَامِهِ يُنَاقِضُ أَوَّلَهُ فَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ بِالتَّنَاقُضِ وَلِأَنَّهُ تَرَجَّحَ كَلَامُهُ الْأَوَّلُ بِالْقَضَاءِ فَلَا يُنْقَضُ بِتَكْذِيبِهِ نَفْسَهُ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ وَأَمَّا فِي الْبَاطِنِ بِأَنْ عَلِمَ أَيْ الْمُدَّعِي أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ مِنْهُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ الْقَضَاءَ بِشَهَادَةِ الزُّورِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَذَاكَ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ دُونَ الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ وَضَمِنَ الشَّاهِدُ نِصْفَ مَا شَهِدَ بِهِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْعَلَامَةُ الْعَيْنِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ؛ لِأَنَّ التَّسَبُّبَ عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي سَبَبُ الضَّمَانِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَقَدْ تَسَبَّبَ لِلْإِتْلَافِ تَعَدِّيًا وَقَدْ تَعَذَّرَ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُبَاشِرِ وَهُوَ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ كَالْمَلْجَأِ إلَى الْقَضَاءِ وَفِي إيجَابِهِ عَلَيْهِ صَرْفُ النَّاسِ عَنْ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مَاضٍ فَاعْتُبِرَ السَّبَبُ وَهُوَ الشَّاهِدُ سَوَاءٌ قَبَضَ الْمُدَّعِي الْمَالَ أَوْ لَا بِهِ يُفْتَى كَذَا فِي التَّنْوِيرِ وَالْبَحْرِ وَالْبَزَّازِيَّةِ وَخُلَاصَةِ الْفَتَاوَى وَخِزَانَةِ الْمُفْتِينَ.
وَقَيَّدَ ضَمَانَهُ فِي الْهِدَايَةِ وَالْمُلْتَقَى وَالْوِقَايَةِ وَالْكَنْزِ وَالدُّرَرِ بِمَا إذَا قُبِضَ الْمَالُ لِعَدَمِ الْإِتْلَافِ قَبْلَهُ لَكِنْ الْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي الَّذِي عَلَيْهِ الْمُتُونُ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْمُتُونِ تَصْحِيحٌ الْتِزَامِيٌّ وَالتَّصْحِيحُ الصَّرِيحُ أَقْوَى وَعِبَارَةُ الْخُلَاصَةِ الشَّاهِدَانِ إذَا رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا رُجُوعًا مُعْتَبَرًا يَعْنِي عِنْدَ الْقَاضِي لَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ لَكِنْ ضَمِنَا الْمَالَ الَّذِي شَهِدَا بِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَخِيرُ وَهُوَ قَوْلُهُمَا وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى سَوَاءٌ قَبَضَ الْمَقْضِيُّ لَهُ الْمَالَ الَّذِي قُضِيَ بِهِ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ اهـ وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْفَتْوَى الضَّمَانُ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ قَبَضَ الْمُدَّعِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute