قوله "سنستجد خلاف الحالتين غدا" جمعٌ فيما قسَمَ، لطيفٌ. وقد ازدادَ لطفاً بحُسنِ ما بَناه عليه، ولُطْفِ ما توصَّل به إليه، من قوله "فقد سكنتُ إلى أني وأنكم".
وإذْ قد عرفتَ هذا النمطَ من الكلام، وهو ما تتَّحِدُ أَجزاؤه حتى يُوضَعَ وَضْعاً واحداً، فاعلمْ أَنه النمطُ العالي، والبابُ الأَعْظم والذي لا تَرى سلطان المزيةِ يَعْظُم في شيء، كَعِظَمه فيه.
ومما أَتى في هذا الباب، مأْتىً أَعْجَبَ مما مضى كله، قولُ زياد الأعجم [من الطويل]:
وإنَّما ما نُلْقي لنا إنْ هجَوْتَنا ... لَكالبحر مَهْما يُلْقَ في البحر يَغْرقِ
وإنما كان أعجبَ لأن عمله أدقُّ، وطريقه أغمض، ووجه المشابهة فيه أغربُ.
واعلمْ أنَّ مِن الكلام، ما أنتَ تَعلمُ إذا تدبَّرْتَهُ، أنْ لم يحتجْ واضعُه إلى فكْرٍ وروية حتى انتظَمَ، بل ترى سبيلَه في ضمِّ بعضِه إلى بعض، سبيلَ مَنْ عمدَ إلى لآلٍ، فخرَطَها في سلكٍ لا يبغي أكثرَ من أنْ يَمْنعَها التفرُّقَ. وكمَنْ نَضَدَ أشياءَ بعضُها على بعضٍ، لا يُريد في نَضَده ذلك، أن تجيءَ له منه هيئةٌ أو صورةٌ، بل ليس إلاَّ أنْ تكون مجموعةً في رأْي العينِ. وذلك إذا كان مَعْناكَ معنىً لا يَحتاجُ أن تَصْنَعَ فيه شيئاً، غيرَ أنْ تَعْطِفَ لفَظاً عَلَى مثله.