قال صاحب الكتاب، وهو يَذكُر الفاعلَ والمفعولَ: كأنهم يُقدِّمون الذي بَيانُه أَهمُّ لهم، وهُم بشأنه أَعْنى، وإن كانا جميعاً يُهمَّانِهم ويَعْنيانِهم. ولم يَذْكر في ذلك مثالاً. وقال النحويون: إنَّ معنى ذلك أَنه قد يكونُ من أغراض الناس في فعلٍ ما، أنْ يَقَع بإنسانٍ بعينه، ولا يُبالون مَنْ أَوْقَعَه؛ كَمِثل ما يُعلمُ مِنْ حالهم، في حال الخارجي يَخْرُج فيعيثُ ويُفْسِد ويَكْثُرُ به الأذى، أَنهم يُريدون قَتْلَه ولا يُبالون مَنْ كانَ القتلُ منه، ولا يَعْنيهم منه شيءٌ. فإذا قُتل وأرادَ مُريدٌ (قتلَ زيدٌ الخارجيَّ) لأنه يعلم أنْ ليس للناس، في أن يعلموا أنَّ القاتلَ له زيدٌ، جَدْوى وفائدةٌ، فيَعْنيهم ذكْرُه ويهمُّهُمْ ويتَّصلُ بمسرتهم. ويَعْلم من حالهم أَنَّ الذي هم متوقِّعون له ومُتَطلّعون إليه، متى يكونُ، وقوعُ القتل بِالخارجي المُفْسِد، وأنهم قد كفُّوا شرَّه، وتخلَّصوا منه.
ثم قالوا: فإن كان رجلٌ ليس له بأس، ولا يقَدَّرُ فيه أنه يَقتُلُ فقَتلَ رجلاً، وأَرادَ المُخْبِرُ أن يُخْبر بذلك، فإنه يُقدِّم ذكرَ القاتلِ فيقول:(قتلَ زيدٌ رجلاً): ذاك لأَنَّ الذي يَعْنيه، ويَعْني الناسَ من شأن هذا القتل، طرافَتُه وموضعُ الندْرةِ فيه. وبُعدُه كان من الظنِّ. ومعلومٌ أَنه لم يكن نادراً وبعيداً من حيثُ كان واقعاً بالذي وَقَع به، ولكنْ من حيثُ كان واقعاً مِنَ الذي وقعَ منه. فهذا جيِّد بالغٌ؛ إلاَّ الشأنَ في أَنه يَنبغي أن يُعرَفَ في كل شيءٍ قُدِّمَ في موضع من الكلام، مثلُ هذا المعنى، ويُفسَّر وجهُ العنايةِ فيه هذا التفسير.
مواضع التقديم والتأخير
وقد وَقعَ في ظنون الناس أَنَّه يكفي أنْ يقال إنه قُدِّم للعناية، ولأنَّ ذكْرَه أَهمُّ، مِنْ غير أن يُذْكَر مِنْ أين كانت تلك العنايةُ، ولمَ كانَ أهمَّ. ولِتخيُّلهِم ذلك، قد صَغُر أمرُ التقديم والتأخير في نفوسهم، وهَوَّنوا الخَطْبَ فيه، حتى إنك لتَرى أكثرَهم يَرى تَتبُّعَه والنظرَ فيه، ضرباً من التكلف؛ ولم ترَ ظنّاً أزْرى على صاحبه من هذا وشَبهه.