ونظيرُ هذا قولُه تعالى:{قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين}[الأنعام: ١٤٣]، أُخرجَ اللفظُ مَخْرجَه، إذا كان قد ثبتَ تحريمٌ في أحدِ أشياء، ثم أُريدَ معرفةُ عين المحرَّم، مع أنَّ المراد إنكارُ التحريم مِنْ أصله ونَفْيُ أن يكونَ قد حُرِّمَ كأنه قد كان؛ ثم يُقال لهم: أَخْبِرونا عن هذا التحريم الذي زعمتُمْ، فيمَ هو؟ أفي هذا، أم ذاك، أم في الثالث؟ ليتبيَّنَ بُطْلانُ قولِهمْ ويَظْهَرَ مكانُ الفِرْية مِنهم على الله تعالى. ومثل ذلك قولُكَ للرجلِ يدَّعي أمراً وأنتَ تُنْكِره:(متى كان هذا، أفي ليل أم نهاراً؟) تضَعُ الكلامَ وضْعَ مَنْ سَلَّم أنَّ ذلك قد كان، ثم تُطالِبُه ببيان وقْتهِ يَتَبيَّنَ كذبَهُ إذا لم يَقْدر أن يَذكُرَ له وقتاً ويُفتضَح. ومثلُهُ قولُكَ:(مَنْ أَمرَكَ بهذا مِنَّا، وأَيُّنا أَذِنَ لكَ فيه؟) وأنتَ لا تَعني أنَّ أَمْراً قد كان بذلك مِنْ واحدٍ منكم، إلا أنَّكَ تَضَعُ الكلامَ هذا الوضْعَ لكي تُضيِّقَ عليه ولِيَظْهَر كَذِبُه حينَ لا يَستطيعُ أن يقولُ: فلانٌ، وأَنْ يُحيلَ على واحد.
التقديم والتأخير في الاسم والمضارع مع الاستفهام
وإذ قد بينَّا الفَرْقَ بين تقديم الفعلِ وتقديم الاسم والفعلُ ماضٍ، فينبغي أن يُنظَر فيه والفعلُ مضارعٌ. والقول في ذلك أَنك إِذا قلت:(أَتفَعلُ)، و (أَأَنْتَ تَفعل؟) لم يَخْلُ من أن تُريدَ الحالَ أو الاستقبالَ. فإن أردتَ الحالَ، كان المعنى شبيهاً بما مَضى في الماضي. فإذا قلتَ:(أتفعل؟) كان المعنى على أنكَ أردتَ أن تُقرِّره بفعل هو يفعلُه، وكنتَ كمَن يُوهِمِ أنه لا يَعلمُ بالحقيقة أنَّ الفعلَ كائنٌ. وإذا قلتَ:(أأَنتَ تَفْعل؟) كان المعنى على أنك تريد أن تُقرِّره بأنه الفاعل، وكانَ أمْرُ الفعلِ في وجوده ظاهراً، وبحيثُ لا يُحتاج إلى الإقرار بأنه كائن. وإن أردتَ بـ "تَفْعلُ" المستقبلَ، كان المعنى، إذا بدأْتَ بالفعل، على أنك تَعْمد بالإنكار، إلى الفعل نفسه، وتَزعم أنه لا يكونُ أو أنه لا ينبغي أن يكون. فمثال الأول [من الطويل]: