وذلك أنه ظاهرٌ معلومٌ أَنه لم يُرد أن يجعلَ هذا الإزْماعَ لها خاصة، ويجعلَها من جماعةٍ لم يُزْمِع البينَ منهم أحدٌ سواها، هذا محال. ولكنه أراد أن يُحقِّق الأمرَ ويؤكدَه فأَوقَعَ ذِكرَها في سمع الذي كلّم ابتداءً ومِن أَول الأمر، ليعلَم قَبْل هذا الحديث أنه أرادها بالحديث، فيكون ذلك أبعدَ له من الشك.
لا شُبْهة في أنه لم يُرد أن يَقْصُر هذه الصفةَ عليهما، ولكن نَبَّه لهما قبْلَ الحديثِ عنهما. وأَبْيَنُ من الجميع قولُه تعالى:{واتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ}[الفرقان: ٣] وقوله عز وجل: {وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ}[المائدة: ٦١]. وهذا الذي قد ذكرتُ من أنَّ تقديمَ ذكرِ المحدِّث عنه، يفيد التنبيهَ له، قد ذكَرَه صاحبُ "الكتاب" في المفعول، إذا قُدِّم فرُفِع بالابتداء وبُنيَ الفعلُ الناصبُ، كان له عليه، وعُدِّيَ إلى ضميره فشُغِلَ به، كقولنا في "ضربتُ عبدَ الله": (عبدُ الله، ضَرَبتُه)، فقال: وإنما قلتُ (عبدُ الله) فنبَّهْتُه له، ثم بَنيتُ عليه الفعلَ ورفعْتُه بالابتداء.
فإن قلتَ: فمِن أينَ وجَبَ أن يكون تقديمُ ذِكْر المحدِّثِ عنه بالفعل، آكَدَ، لإثبات ذلك الفعلِ له، وأن يكون قولُه "هما يلبسان المجْدَ" أبلغَ في جعلهما يلبسانه، من أين يقال: يلبسان المجد؟ فإنِّ ذلك من أَجْل أنه لا يُؤتى بالاسم مُعَرَّى من العوامل، إلاَّ لحديثٍ قد نُويَ إسنادُه إليه. وإذا كان كذلك، فإذا قلتَ "عبد الله"، فقد أشعرْتَ قلْبَه بذلك أنك قد أردتَ الحديثَ عنه. فإذا جئتَ بالحديث، فقلت مثلاً: قام، أو قلتَ: خرجَ، أو قلتَ: قَدِمَ، فقد عُلم ما جئتَ به، وقد وطَّأْتَ له وقدَّمتَ الإعلام فيه، فدخلَ على القلب دُخولَ المأنوسِ به، وقَبِله قَبولَ المتهيِّئ له المطمئنِ إليه؛ وذلك لا محالةَ، أَشدُّ لِثبُوته وأَنفْى للشبهة، وأَمنعُ للشك، وأَدْخَلُ في التحقيق.