للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فلو أنَّ قومي أَنطَقَتْني رماحُهُمْ ... نَطَقْتُ ولكنَ الرماحَ أَجرَّتِ

"أَجرَّتْ" فعلٌ مُتَعدِّ، ومعلومٌ أنه لو عدَّاه لَمَا عدَّاهُ إلاَّ إلى ضمير المتكلم، نحو "ولكن الرماح أجرتني" وأنه لا يُتَصوَّر أنْ يكون هاهنا شيءٌ آخرُ يَتعدَّى إليه، لاستحالة أن يقول: (فلو أن قومي أنطقتني رماحُهم، ثم يقول: ولكنَّ الرماح أجرَّتْ غيري). إلا أنك تَجدُ المعنى يُلزمُك أنْ لا تنطقَ بهذا المفعول، ولا تُخرِجَه إلى لفظك؛ والسببُ في ذلك أَنَّ تَعْديتَكَ له، تُوهِمُ ما هو خِلافُ الغَرَضِ؛ وذلك أنَّ الغرَضَ هو أن يثْبتَ أنه كان من الرماح إجْرارٌ وحبْسُ الألسنِ عن النطق، وأن يصحَّح وجودُ ذلك. ولو قال: "أجرَّتْني" جاز أن يُتوهَّم أنه لم يَعْن بأن يُثبِتَ للرماح إجراراً، بل الذي عناه أنْ يتَبيَّن أنها أجرَّتْه؛ فقد يُذَكرُ الفعلُ كثيراً والغرَضُ منه ذكْرُ المفعول. مثالُه أنك تقول: (أضَربْتَ زيداً؟) وأنتَ لا تُنكِرُ أن يكون كان من المخاطب ضَرْبٌ، وإنما تُنكِرُ أن يكونَ وقع الضربُ منه على زيد، وأن يستجيزَ ذلك أو يستطيعَه. فلما كان في تعديةِ "أجرَّت" ما يُوهِمُ ذلك، وقَفَ، فلم يُعدِّ البتَّةَ، ولم يَنْطِق بالمفعول، لتَخْلُصَ العنايةُ لإثبات الإجرار للرماح، ويصحَّح أنه كان منها، وتَسْلَم بكلِّيتها لذلك.

ومثله قول جرير [من الوافر]:

أمنَّيْتِ المُنى وخَلَبْتِ حتى ... تركْتِ ضميرَ قلبي مُسْتهاما

الغرضُ أن يُثبت أنه كان منها تَمْنِيَةٌ وخَلاَبة، وأن يقول لها: أهكذا تَصْنعين وهذه حيلتُك في فتنة الناس؟

ومِنْ بارعِ ذلك ونادِرِه، ما تجدُه في هذه الأبيات: روَى المرزُباني في "كتاب الشعر" بإسنادٍ قال: لما تشاغَلَ أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه، بأهل الرِّدَّةِ، استبطأتْه الأَنصارُ، فقال: إما كلَّفْتموني أخلاقَ رسول الله صلى الله عليه سلم. فوَاللهِ ما ذاكَ عندي ولا عِنْد أحدٍ من الناس. ولكنِّي واللهِ ما أُوتيِ مِنْ مودَّةٍ لكُمْ ولا حسْنِ رأْي فيكم؛ وكيف لا نُحِبُّكم! فواللهِ ما وجدْتُ مثَلاً لنا ولَكُم إلا ما قال طفيل الغنوي لبني جعفر بن كلاب [من الطويل]:

<<  <   >  >>