للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقسم ثان، وهو أن يكون له مفعولٌ مقْصودٌ قَصْدُه معلومٌ، إلا أنه يُحْذَفُ من اللفظ لدليل الحال عليه؛ وينقسم إلى جَليِّ صنعةَ فيه، وخَفِيٍّ تَدخلُه الصنعةُ.

فمثال الجليِّ قولهم: (أصغَيْتُ إليه). وهم يُريدون: أذني، و: (أغضبتُ عليه)، والمعنى: جَفْني.

وأما الخَفيُّ الذي تدخلُه الصنعةُ، فيتفنَّنُ ويتنوَّعُ. فنوع منه، أنْ تَذكُر الفعلَ، وفي نفسِك له مفعولٌ مخصوصٌ قد عُلمَ مكانُه إما لِجَزْي ذكْر أو دليل حالٍ، إلاَّ أنك تُنْسيه نفْسَكَ وتُخْفيهِ، وتُوهِمُ أنك لم تَذْكُر ذلكَ الفعلَ، إلاَّ لأن تُثْبِتَ نفْسَ معناه، مِنْ غير أن تُعدِّيَهُ إلى شيء، أو تَعْرضَ فيه لمفعولٍ. ومثاله قول البحتري [من الخفيف]:

شَجْوُ حسَّادِهِ وغَيْظُ عِداهُ ... أن يَرى مُبْصِرٌ ويسْمَعَ واعِ

المعنى، لا محالة، أن يَرى مُبصرٌ مَحاسِنَه ويَسْمعَ واع أخبارَه وأوصافَه؛ ولكنك تَعْلُم على ذلك، أنه كان يَسْرِقُ علْمَ ذلك مِنْ نفْسِه، ويدْفَع صورتَه عن وَهْمه، ليَحْصُل له معنى شريفٌ وغرَضٌ خاصٌّ؛ وقال إنَّه يَمْدح خليفةً هو المعتزُّ، ويُعرِّضُ بخليفةٍ وهو المستعين، فأرادَ أن يقول: (إنَّ محاسنَ المعتزِّ وفضائلَه المحاسنُ والفضائلُ، يَكفي فيها أنْ يَقع عليها بَصرٌ ويَعيَها سمْعٌ، حتى يَعْلَم أنه المُستحِقُّ للخلافة، والفردُ الوحيدُ الذي ليس لأحدٍ أن يُنازِعَه مَرْتبتَها، فأنتَ ترَى حسَّادَه وليس شيءٌ أشْجى لهم وأغْيَظُ من عِلْمهم بأنَّ هاهنا مُبْصراً يرَى وسامعاً يَعي، حتى لَيتَمنَّوْنَ أنْ لا يكونَ في الدنيا مَنْ له عينٌ يُبصر بها، وأُذُنٌ يَعي معها، كي يَخْفى مكنُ استحقاقِه لِشَرف الإمامةِ، فيجدوا بذلك سَبيلاً إلى منازعَتهِ إياها.

(وهذا نوعٌ آخر منه) وهو أن يكون معك مفعولٌ معلومٌ مقصودٌ، قَصْدُهُ قد عُلِمَ أنه ليس للفعل الذي ذكرتَ مفعولٌ سواه، بدَليلِ الحالِ، أو ما سَبَق من الكلام، إلاَّ أنك تَطْرحُه وتَتَناساهُ، وتدَعُه يَلزَمُ ضميرَ النفسِ لِغَرضٍ غير الذي مَضى، وذلك الغرضُ أن تتوفرَ العنايةُ على إثبات الفعلِ للفاعلِ وتخلصَ له وتَنصرف بجملتها وكما هي إليه. ومثاله قول عمرو بن معدي كرب [من الطويل]:

<<  <   >  >>