للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإذْ قد عرفتَ هذه الجملةَ، فاعلمْ أَنَّ أغراضَ الناس تختلف في ذكْر الأفعال المتعدية. فهم يذكرونها تارةً ومرادُهم أن يَقْتصِروا على إثبات المعاني التي اشتُقَّتْ منها للفاعلين، من غير أنْ يتعرَّضوا لذكْر المفعولين؛ فإذا كان الأمرُ كذلك، كان الفعل المتعدي كغَير المتعدي، مثلاً في أنك لا تَرى له مفعولاً لا لفظاً ولا تقديراً. ومثالُ ذلك قولُ الناس: (فلان يحُلُّ ويَعْقِدُ، ويأمرُ وَينهى، ويَضُرُّ ويَنْفع)، وكقولهم: (هو يُعْطي ويُجْزِلُ، ويَقْري ويُضيفُ)؛ المعنى في جميع ذلك، على إثبات المعنى في نفسه للشيء على الإطلاقِ وعلى الجملة، من غير أن يتعرَّضَ لحديثِ المفعولِ، حتى كأنك قلتَ: صار إليه الحَلُّ والعَقْدُ، وصار بحيثُ يكون منه: حَلٌّ وعقْدٌ وأمرٌ ونَهْيٌ وضَرٌّ ونَفْعٌ، وعلى هذا القياس؛ وعلى ذلك قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: ٩].

المعنى: هل يستوي مَنْ له عِلْم ومَنْ لا علمَ له، من غير أن يقصدَ النصُ على معلوم. وكذلك قولُه تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النجم: ٤٣ - ٤٤] وقوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى} [النجم: ٤٨]. المعنى: هو الذي منه الإحياءُ والإِماتةُ، والإِغناءُ والإقناءُ. وهكذا كلُّ موضعٍ كان القصدُ فيه أن يُثْبتَ المعنى في نفسه فعلاً للشيء، وأن يُخْبر بأنَّ مِن شأنه أن يكون منه، أو لا يكونُ إلاَّ منه، أو لا يكون منه. فإنَّ الفعلَ لا يُعدَّى هناك، لأن تعديته تَنْقُضُ الغرضَ وتُغيِّر المعنى. ألا ترى أنكَ إذا قلتَ: (هو يعطي الدنانير)، كان المعنى على أنك قصدْتَ أن تُعْلمَ السامعَ أنَّ الدنانير تَدْخلُ في عطائه، أو أنه يُعْطيها خصوصاً دونَ غيرها، وكان غرَضُك على الجملة، بيانَ جنسِ ما تناولَه الإعطاءُ، لا الإعطاءُ في نفسه، ولم يكن كلامُك معَ مَنْ نَفَى أن يكون كان منه إعطاءٌ بوجهٍ من الوجوه، بل مع من أَثْبَتَ له إعطاءً إلا أنه لم يُثبت إعطاءَ الدنانير؛ فاعرفْ ذلك! فإنه أصْلٌ كبير عظيمُ النفع.

فهذا قسمٌ من خُلوِّ الفعلِ عن المفعول، وهو أن لا يكون له مفعولٌ يُمكن النصُّ عليه.

<<  <   >  >>