إذْ لا تقول:(حجراتٍ من شَأْنِ مِثْلِها أن تُدفئنا وتُظلَّنا): هذا لَغُوٌ من الكلام، وفاعْرِفْ هذه النكْتَةَ، فإنك تَجدُها في كثير من هذا الفن، مضمومةً إلى المعنى الآخر الذي هو توفيرُ العناية على إثباتِ الفعلِ والدلالةِ على أنَّ القصْدَ من ذكْر الفعلِ، أن تُثْبتَه لفاعلهِ، لا أن تُعلِمَ التباسَهُ بمفعوله.
وإن أردتَ أنْ تزدادَ تَبييناً لهذا الأصل، أعني وُجوبَ أنْ تُسْقِط المفعولَ لتتوفَّر العنايةُ على إثبات الفعل لفاعله، ولا يَدخلَها شَوْبٌ، فانظرْ إلى قوله تعالى:{وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امرأتين تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فسقى لَهُمَا ثُمَّ تولى إِلَى الظل}[القصص: ٢٣ - ٢٤] ففيها حَذْفُ مفعولٍ في أربعةِ مواضعَ: إذ المعنى: وجدَ عليه أمةً من الناس يَسْقون أغنامَهم، أو مواشيَهم، وامرأتينِ تَذُودان غَنَمهما، وقالتا لا نَسْقِي غنمَنَا، فسقى لهما غنمَهَما. ثم إنَّه لا يَخْفى على ذي بَصَرٍ، أنه ليس في ذلك كلِّه إلاَّ أن يُتْرَكَ ذِكْرُه ويُؤْتى بالفعل مطْلقاً، وما ذاك إلاَّ أنَّ الغرضَ في أن يُعلَم أنه كان من الناس في تلك الحال سَقْيٌ ومن المرأتينِ ذَوْدٌ وأنهما قالتا: لا يكونُ منَّا سقْيٌ حتى يُصْدِرَ الرعاءُ؛ وأنه كان مِنْ موسى عليه السلام، مِنْ بَعْدِ ذلك سَقْي. فأمَّا ما كان المَسْقيُّ أغَنماً أم إبلاً أم غيرَ ذلك، فخارجٌ عن الغرَض ومُوْهِمٌ خِلافَه؛ وذاكَ أنه لو قيل: وجَد مِنْ دونِهمْ امرأتينِ تَذُودانِ غنَمَهما: جاز أن يكونَ لم يُنْكر الذودَ من حيث هو ذَوْدٌ بل مِنْ حيثُ هو ذَوْدُ غَنم، حتى لو كان مكانَ الغنمِ إبلٌ لم يُنكر الذودَ؛ كما أنك إذا قلتَ: مالكَ تمنعُ أخاك؟ كُنْتَ مُنْكِراً المنعَ لا من حيثُ هو مَنعٌ بل مِنْ حيثُ هو منعُ أخٍ، فاعرْفه تَعْلمْ أَنكَ لم تَجِدْ لِحَذْف المفعولِ في هذا النحو مِن الرَّوعة والحُسْن ما وجَدْتَ، إلاَّ لأنَّ في حَذْفه وتَرْكِ ذِكْرِه فائدةً جليلةً، وأن الغرَضَ لا يصِحُّ إلا على تَرْكهِ.