ومما هو كأنه نَوعٌ آخرُ غيرُ ما مضى، قول البحتري [من الطويل]:
إذا بَعُدَتْ أَبلَتْ وإن قَرُبَتْ شَفَتْ ... فهِجْرانُها يُبْلي ولُقيانُها يَشْفي
قد عُلِمَ أنَّ المعنى "إذا بَعُدَتْ عني أَبْلَتني وإن قَرُبَتْ مني شفَتْني" إلاَّ أَنك تَجِدُ الشعرَ يأبى ذِكْرَ ذلك ويُوجِبُ أطِّراحَه، وذاك لأَنَّه أرادَ أن يَجْعلَ البِلى كأنه واجِبٌ في بِعادها أن يُوجِبَه ويَجْلبه وكأنه كالطبيعة فِيه، وكذلك حالُ الشفاءِ مع القُرب حتى كأنه قال: أتدري ما بِعادُها؟ هو الداءُ المُضْني. وما قُرْبُها؟ هو الشفاءُ والبُرْءُ مِنْ كل داءٍ. ولا سبيلَ لك إلى هذه اللطيفةِ وهذه النكْتة إلا بحذْف المفعول البتةَ، فاعْرِفْهُ! وليس لِنَتائجِ هذا الحذفِ، أعني حَذْفَ المفعولِ، نهايةٌ. فإنه طريقٌ إلى ضروبٍ من الصَّنْعة وإلى لطائفَ لا تُحْصى.
(وهذا نوع منه آخر). إعْلمْ أنَّ هاهنا باباً من الإضمار والحذف، يُسمَّى:
الإضمار على شريطة التفسير
وذلك مثْلُ قولهم:(أكْرَمني وأَكْرَمْتُ عبدَ اللهِ)، أردتُ "أكرمني عبدُ الله وأكرمتُ عبدَ الله" ثم تركتُ ذِكْرَه في الأولِ استغناءً بذِكْرهِ في الثاني. فهذا طريقٌ معروفٌ ومذْهَبٌ ظاهر وشيءٌ لا يُعْبَأُ به ويُظَنُّ أنه ليس فيه أَكثرُ مما تُريكَ الأمثلةُ المذكورةُ منه. وفيه إذا أنتَ طلبتَ الشيءَ من مَعْدِنِه، منْ دقَيقِ الصنعةِ ومن جَليلِ الفائدةِ، ما لا تَجدُه إلاَّ في كلام الفحول.
فمن لطيف ذلك ونادرِهِ، قول البحتري [من الكامل]:
لوْ شِئْتَ لم تُفْسِدْ سَماحَة "حاتِمٍ" ... كَرَماً، ولم تَهْدِمْ مآثِرَ "خالدِ"