فقد نَحَا به نَحْو قولهِ: ولو شئتُ أن أبكي دماً لبكيتُه، فأظْهَر مفعولَ "شئتُ" ولم يَقُلْ: (فلو شئتُ بكيتُ تفكراً) لأجل أَنَّ له غرَضاً لا يَتمُّ إلاَّ بذكر المفعول؛ وذلك أنه لم يُردِ أَن يقول:(ولو شئتُ أن أبكي تفكُّراً، بكيتُ كذلك)، ولكنه أراد أن يقول: قد أفناني النحولُ، فلم يَبْقَ مني وفيَّ غيرُ خواطرَ تَجول، وعصَرْت عيني، ليسيلَ منها دمعٌ لم أَجدْه، ويَخرُجَ بدلَ الدمع التفكُّرُ. فالبكاءُ الذي أراد إيقاعَ المشيئة عليه، مُطْلَقٌ مُبْهم غيرُ مُعَدَّى إلى التفكر البتةَ، والبكاءُ الثاني مقيَّد معدَّى إلى التفكر. وإذا كان الأمر كذلك، صار الثاني كأنه شيء غيرُ الأول، وجرَى مجرى أن تقول: لوشئتَ أن تُعطي درهماً أعطيتَ درهَمين، في أنَّ الثاني لا يَصْلح أن يكون تفسيراً للأول.
واعلمْ أنَّ هذا الذي ذكَرْنا ليس بصريح "أكرمتُ وأكرمني عبدُ الله" ولكنه شبيه به في أنه إنما حُذِفَ الذي حُذِفَ من مفعول المشيئة والإرادة، لأنَّ الذي يأتي في جوابِ (لو) وأخَواتها، يدلُّ عليه.
وإذا أردتَ ما هو صريحٌ في ذلك، ثم هو نادرٌ لطيف، يَنْطوي على معنى دقيقٍ وفائدةٍ جليلة، فانظر إلى بيت البحتري [من الخفيف]:
قد طَلَبْنا فلم نَجدْ لكَ في السُّؤْ ... دُدِ والمَجْد والمَكَارِم مِثْلا
المعنى قد طَلَبْنا لك (مِثْلاً) ثم حذَفَ، لأنَّ ذكْرَه في الثاني يدلُّ عليه. ثم إنَّ في المجيء به كذلك، مِن الحُسْن والمَزيَّة والروعة ما لا يَخْفى، ولو أنه قال: (طلَبْنا لك في السؤدد والمجد والمكارم مَثَلاً فلم نَجِدْه، لم تَرَ من هذا الحُسْن الذي تَراه شيئاً. وسببُ ذلك أَنَّ الذي هو الأصْلُ في المدح والغرض بالحقيقة، هو نَفْي الوجودِ عن المثل، فأَمَّا الطلبُ فكالشيء يُذكر ليُبنى عليه الغَرَضُ ويُؤَكَّد به أَمْرُه. وإذا كان هذا كذلك، فلو أنه قال: قد طلبَنْا لك في السؤدد والمجد والمكارم مِثْلاً، فلم نَجدْه، لكان يكونُ قد تركَ أن يُوقِعَ نفْيَ الوجود على صريح لفظ "المثل"، وأوْقَعَه على ضميره. ولن تَبلُغَ الكنايةُ مبْلَغَ الصريح أَبداً.