فكما أن "أمُرُّ" ههنا في معنى "مررتُ"، كذلك يكون "أَرْهَنُ وأصُكُّ" هناك، في معنى "رهنتُ وصكَكْتُ". ويُبيِّن ذلك أنك ترَى (الفاء) تَجيء مكان (الواو) في مثل هذا، وذلك كنَحْو ما في الخَبرَ في حديث عبد الله بنِ عَتيك حين دخَلَ على أبي رافع اليهودي حصنَه قال:"فانتهيتُ إليه فإذا هو بيت مُظْلم لا أدري أنَّى هو من البيت، فقلتُ: أبا رافع. فقال: منْ هذا؟ فأهويتُ نحو الصوت فأضربُه بالسيف وأنا دَهِشٌ" فكما أن "أَضرِبُه" مضارع قد عطَفه (بالفاء) على ماضٍ، لأنه في المعنى ماضٍ، كذلك يكون "أرهنُهم" معطوفاً على الماضي قبله. وكما لا يُشَكُّ في أنَّ المعنى في الخبر "فأهويتُ فضربْتُ" كذلك يكونُ المعنى في البيت "نجوتُ ورهَنْتُ". إلا أنَّ الغرض في إخراجه على لفظِ الحال أن يحكي الحالَ في أحد الخبرَيْن ويدَعَ الآخر على ظاهره، كما كان ذلك في:"ولقد أمرُّ عَلَى اللئيم يَسبُّني فمضيتُ"، إلا أن الماضي في هذا البيت مؤخَّر معطوفٌ، وفي بيت ابن همَّام، وما ذكرناه معه، مقدَّمٌ معطوف عليه، فاعرفْه!
فإنْ دخَلَ حرفُ نَفْي على المضارع، تغيَّر الحكْمُ فجاء (بالواو) وبِتَرْكِها كثيراً، وذلك مثلُ قولهم:(كنتُ ولا أُخَشَّى بالذئبِ).
وقولِ مسكين الدارمي [من الرمل]:
أكْسَبَتْه الوَرِقُ البيضُ أباً ... ولقدْ كان ولا يُدعَى لأَِبْ
وقولِ مالك بن رفيع وكان جنى جنايةً فطلَبَه مُصْعَبُ بنُ الزبير [من الوافر]:
أتاني مُصعَبٌ وبنوا أبيهِ ... فأَينَ أَحِيدُ عنهمْ لا أَحيدُ
أقادُوا مِنْ دَمِي وتَوَعَّدوني ... وكنتُ وما يُنَهْنِهُنِي الوعيدُ
"كان" في هذا كلِّهِ تامةٌ، والجملة الداخل عليها (الواو) في موضع الحالِ؛ ألا ترى أن المعنى:"وُجدْتُ غير خاشٍ للذئب. ولقد وُجِد غَيرَ مدعوٍّ لأبٍ. وَوُجدتُ غيرَ منَهْنَه بالوعيد وغير مبالٍ به". ولا معنى لجعلها ناقصة وجعل (الواو) مزيدة. وليس مجيءُ الفعل المضارعِ حالاً على هذا الوجه، بعزيز في الكلام؛ ألا تَراك تقولُ:(جعلتُ أَمشي وما أَدري أين أَضعُ رجلي، وجعَل يقول ولا يَدري)؟ وقال أبو الأسود "يصيب وما يدري" وهو شائع كثير.