فأما مجيءُ المضارع مَنْفياً حالاً مِنْ غَير (الواو) فيَكْثُر أيضاً ويَحْسُن. فمن ذلك قوله: [من الطويل]:
مضَوْا لا يُريدون الرواحَ وغالَهُمْ ... من الدهر أسبابٌ جَرَيْنَ عَلَى قَدْرٍ
وقال أَرْطأةُ ابن سُهَيّة وهو لطيف جداً [من البسيط]:
إنْ تَلقَني لا تَرى غَيري بناظِرةٍ ... تنْسَ السِّلاحَ وتعْرِفْ جَبْهةَ الأَسدِ
فقوله: "لا ترى". في موضع حالٍ. ومثلُه في اللطف والحُسْن، قولُ أعشى هَمْدان، وصَحِبَ عبَّاد بنَ ورقاءَ إلى أصبهان فلم يَحْمَدْه، فقال [من الوافر]:
أتَيْنَا أصبهانَ فهزَّلَتْنا ... وكنَّا قَبْل ذلك في نَعيم
وكان سَفاهةً منِّي وَجهلاً ... مَسِيري لا أَسِيرُ إلى حَميمِ
قوله: (لا أسيرُ إلى حميم) حالٌ من ضمير المتكلمِ الذي هو (الياء) في "مسيري" وهو فاعلٌ في المعنى، فكأنه قال: (وكان سفاهةً مني وجهلاً أَنْ سرتُ غيرَ سائرٍ إلى حميم، وأنْ ذهبتُ غير متوجِّهٍ إلى قَريب). وقال خالد بن يزيد بن معاوية [من الكامل]:
لو أَنَّ قوماً لاِرتفاعِ قَبيلةٍ ... دَخَلُوا السماءَ دخلتُهَا لا أُحْجَبُ
وهو كثيرٌ إلا أنه لا يَهْتَدي إلى وضعه بالموضع المَرْضِيِّ إلاَّ مَنْ كان صحيحَ الطبعِ.
ومما يجيء (بالواو) وغير (الواو) الماضي، وهو لا يقع حالاً إلا مع "قد" مُظْهَرةً أو مقدَّرَةً؛ أما مجيئها (بالواو) فالكثيرُ الشائع كقولك: (أتاني وقد جَهِدَهُ السيرُ). وأما بغير (الواو) فكقوله [من البسيط]:
متى أَرى الصبْحَ قد لاحَتْ مَخَايلُه ... والليلَ قد مُزِقَتْ عنهُ السَّرابيلُ
وقول الآخر [من الوافر]:
فآبُوا بالرماحِ مُكَسَّراتٍ ... وأُبْنَا بالسيوفِ قد انحنينا
وقال آخر وهو لطيف جداً [من الكامل]:
يمْشُون قدْ كَسَروا الجُفُونَ إلى الوغَى ... مُتَبَسِّمينَ وفيهمِ اسْتِبْشارُ
ومما يجيء (بالواو) في الأكثر الأَشْيع، ثم يأتي في مواضع بغير (الواو)، فَيْلطُفُ مكانُه ويَدلُّ على البلاغة: الجملةُ قد دَخلَها "ليس"؛ تقول: (أتاني وليس عليه ثوبٌ ورأيتُه وليس معه غيره). فهذا هو المعروف المُسْتعمَل. ثم قد جاء بغير (الواو) فكان من الحُسْن على ما ترى، وهو قول الأعرابي [من الزاجر]: