وهذا القياسُ وإن كان قياساً ظاهراً معلوماً، وكالشيءِ المركوز في الطباع، حتى ترَى العامَّةَ فيه كالخاصَّة، فإنَّ فيه أمراً يجبُ العلمُ به، وهو أنه يُتصوَّر أن يَبْدأ هذا فيَعْمل ديباجاً، ويُبْدِعَ في نقشِه وتصويره، فيجيءُ آخرُ ويَعْمل ديباجاً آخر مثْلَه في نقْشهِ وهيئتِه وجملةِ صفته، حتى لا يَفْصِلَ الرائي بينهما، ولا يقَعَ لمن لم يَعْرِفْ القصةَ ولم يَخْبُر الحالَ، إلا أنهما صنعةُ رجلٍ واحد وخارجان من تحت يدٍ واحدة؛ وهكذا الحكْم في سائر المصنوعاتِ كالسِّوار يَصوغُه هذا، ويجيءُ ذاكَ فيَعْملُ سواراً مثله ويؤدِّي صنْعَتَه كما هي، حتى لا يُغادِرَ منها شيئاً البتَّةَ؛ وليس يُتَصوَّر مثلُ ذلك في الكلام، لأنه لا سبيلَ إلى أن تجيء إلى معنى بيتٍ من الشعرٍ أو فْصِلٍ من النثرِ فتؤدِّيَهُ بعينهِ وعلى خاصِّيَّتهِ وصَنْعَتهِ، بعبارة أخرى، حتى يكونَ المفهومُ مِن هذه هو المفهومُ مِن تلك، لا يُخالِفُه في صِفَةٍ ولا وَجْهٍ ولا أمرٍ من الأُمور، ولا يَغُرَّنَّكَ قولُ الناس:(قد أتى بالمعنى بعينِه وأخَذَ معنى كلامِهِ فأَدَّاهُ على وجههِ)؛ فإنه تَسَامحٌ منهم؛ والمرادُ أنه أدَّى الغرَضَ فأمَّا أن يؤدِّيَ المعنى بعينهِ على الوجْه الذي يكونُ عليه في كلام الأول، حتى لا تَعْقِلَ ههنا إلا ما عقَلْتَه هناك، وحتى يكونَ حالُهما في نفْسِك حال الصورَتَيْنِ المشتبهتَيْنِ في عينك، كالسوارَيْن والشَّنْفَيْن، ففي غاية الإحالة، وظنٌّ يُفضي بصاحبه إلى جهالةٍ عظيمةٍ وهي أن تكون الألفاظُ مختلفةَ المعاني إذا فُرِّقتْ، ومتَّفِقَتهَا إذا جُمِعَتْ وأُلِّفَ منها كلامٌ؛ وذلك أنْ ليسَ كلامُنا فيما يُفْهَمُ من لفظتينِ مفردَتْين نحو "قعدَ وجلَسَ" ولكن فيما فُهم من مجموع كلامٍ، ومجموعِ كلامٍ آخرَ. نحو أن تنظر في قوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ}[البقرة: ١٧٩] وقولِ الناس: (قتلُ البعضِ إحياءٌ للجميع): فإنه وإنْ كان قد جرَتْ عادةُ الناسِ بأن يقولوا في مثل هذا إنهما عبارتان معبَّرُهما واحدٌ، فليس هذا القولُ قولاً يمكنُ الأخذُ بظاهرِهِ أوْ يَقَعُ لعاقلٍ شكٌّ أنْ ليس المفهومُ مِن أحدِ الكلامين المفهوم من الآخر.