فبدأُوا فنَفَوْا الرؤيةَ، ثم عطَفُوا "لم يكد" عليه، ليُعْلموك أنْ ليس سبيلُ "لم يكد" ههنا سبيلَ "ما كادوا" في قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ}[البقرة: ٧١] في أنه نَفْيٌ معقِّبٌ على إثباتٍ، وأنْ ليس المعنى على أنَّ رؤيةً كانت مِنْ بعْدِ أن كادت لا تكون، ولكن المعنى أن رؤيتَها لا تُقارِب أن تكونَ، فضلاً عن انْ تكونَ. ولو كان "لَم يكَدْ" يُوجِب وجودَ الفعل، لكان هذا الكلامُ منهم مُحالاً جارياً مَجْرى أن تقول:"لم يَرَها، ورآها؛ فاعرفْه!
وههنا نكتةٌ وهي أنَّ "لم يكد" في الآية والبيت، واقعٌ في جوابِ (إذا). والماضي إذا وقَعَ في جواب الشرط، على هذا السبيل، كان مستقبَلاً في المعنى؛ فإذا قلتَ:(إذا خرجْتَ لمْ أخرُجْ) كنتَ قد نفَيْتَ خُروجاً فيما يُسْتَقْبَل. وإذا كان الأمر كذلك، استحالَ أن يكون المعنى في البيتِ أو الآيةِ على أنَّ الفعلَ قد كان، لأنه يُؤدِّي إلى نْ يجيءَ (لمْ أفعلْ) ماضياً صريحاً في جواب الشرط، فتقول:(إذا خرجتَ لم أخرجْ أمسِ)، وذلك محالٌ.
ومما يتَّضِحُ فيه هذا المعنى، قولُ الشاعر [من المتقارب]:
وراحَ عليهنَّ ذو هَيْدَبِ ... ضعيفُ القُوى ماؤهُ زاخِرُ
إذا رامَ نَهْضاً بها لم يَكَدْ ... كذِي الساقِ أَخْطأَها الجابِرُ
- وأعود إلى الغرض - فإذا بلغَ من دقة هذه المعاني أنْ يَشْتَبهِ الأمرُ فيها على مثْل خلف الأحمر وابن شبرمة، وحتى يشْتبهِ على ذي الرّمة في صوابٍ قالَه فيَرَى أنه غيرُ صوابِ، فما ظَنُّكَ بغيرهم، وما تَعجُّبُك مِن أنْ يَكْثُر التخليط فيه؟ ومن العَجَب في هذا المعنى قولُ أبي النجم [من الرجز]: