وجملةُ الأمر أنه ما مِنْ كلام كان فيه أمرٌ زائد على مجرَّدِ إثباتِ المعنى للشيء، إلاَّ كان الغرضَ الخاصَّ من الكلام، والذي يُقْصَد إليه ويزْجى القول فيه فإذا قلتَ:(جاءني زيدٌ راكباً وما جاءني زيدٌ راكباً)، كنتَ قد وضعْتَ كلامَكَ لأن تُثبتَ مجيئَه راكباً أو تنفي ذلك، لا لأن تُثْبِتَ المجيءَ وتنْفِيَه مطلقاً. هذا ما لا سبيلَ إلى الشَّكَّ فيه.
واعلمْ أنَّه يَلزَمُ من شكَّ في هذا، فتوهَّمَ أنَّه يجوزُ أن تقولَ:(لم أر القومَ كلَّهم)، على معنى أنك لم تَرَ واحداً منهم، أن يُجْريَ النهيَ هذا المجرى فتقولَ:(لا تَضْرب القومَ كلَّهم): على معنى: لا تضْربَ واحداً منهم، وأن تقولَ:(لا تَضْربِ الرجلَيْن كليهما). على معنى: لا تَضْرِبْ واحداً منهما. فإذا قال ذلك، لَزِمَه أن يختل قولَ الناس: لا تَضْرِبْهما معاً ولكنِ اضْرِبْ أحدَهما، ولا تأخُذْهما جميعاً ولكنْ واحداً منهما. وكفى بذلك فساداً.
وإذْ قد بانَ لك من حالِ النَّصْب أنه يقتضي أن يكونَ المعنى، على أنه قد صنَعَ من الذنب بعْضاً، وترك بعضاً؛ فاعلمْ أنَّ الرفعَ على خلاف ذلك، وأنه يقتضي نفْيَ أن يكونَ قد صَنَع منه شيئاً وأتى منه قليلاً أو كثيراً، وأنك إذا قلت:(كلُهم لا يأتيك)، و (كلُّ ذلك لا يكونُ) و (كلُّ هذا لا يَحْسُن)، كنتَ نَفَيْتَ أن يأتِيَه واحدٌ منهم، وأبيْتَ أن يكون، أو يَحْسُنَ شيءٌ مما أشرتَ إليه.
المعنى عَلَى نفْي أن يَعْدُوَ أحدٌ من الناس حِمَامَه بلا شُبْهة. ولو قلتَ:(فكيفَ وليس يعدو كلُّ حِمامَه). فأَخَّرْتَ (كلاّ) لأفسدتَ المعنى وصرْتَ كأنكَ تقولُ: (إنَّ من الناس من يَسْلَمُ من الحِمام ويبقى خالداً لا يموت).