المَعْنى على نَفْي أن يكونَ في سِهامها مُكْدٍ على وجهٍ من الوجوه. ومن البَيِّنِ في ذلك ما جاء في حديث ذي اليدين قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم:"أقَصُرَتِ الصلاةُ أم نَسِيْتَ يا رسولَ الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "كلُّ ذلك لم يَكُنْ" فقال ذو اليدين: "بَعْضُ ذلك قد كان". المعنى لا محالةَ على نَفْي الأمرين جميعاً، وعلى أنه عليه السلامُ أرادَ أنه لم يكنْ واحدٌ منهما: لا القِصَرُ ولا النِّسْيانُ. ولو قيل:(لم يكنْ كلُّ ذلك) لكان المعنى أنه قد كان بعضُه.
واعلمْ أنه، لمَّا كان المعنى مع إعمال الفعلِ المِنفيِّ في "كل" نحو: (لمْ يأتني القومُ كلُّهم، ولم أرَ القومَ كلَّهم)، على أنَّ الفعلَ قد كان مِن البعض ووَقَع على البعض، قلتَ:(لم يأتني القوم كلُّهم ولكنْ أتاني بعضُهم، ولم أرَ القومَ كلَّهم ولكنْ رأيتُ بعضَهم)، فأثبتَّ بعد ما نَفَيْتَ، ولا يكونُ ذلك مع رَفْع "كلّ" بالابتداء. فلو قلتَ:(كلُّهم لم يأتني ولكنْ أتاني بعضهم، وكلُّ ذلك لم يكُنْ ولكنْ كان بعضُ ذلك)، لم يَجُزْ لأنه يؤدِّي إلى التناقض، وهو أن تقول:(لم يأتني واحدٌ منهم ولكنْ أتاني بعضُهم).
واعْلمْ أنَّه ليس التأثيرُ لما ذكَرْنا من إعمال الفعل، وتَرْك إعماله على الحقيقة، وإنما التأثيرُ لأمر آخَر وهو دخول "كل" في حيِّز النفي وأن لا يَدْخُل فيه، وإنما علَّقْنا الحكْم في البيت وسائر ما مَضى، بإعمال الفعل وترك إعماله من حيثُ كان إعمالُه فيه يقتضي دخولَه في حيِّز النفي، وتَرْكُ إعمالهِ يُوجبُ خروجَه منه من حيث كان الحرفُ النافي في البيت حرْفاً لا ينفصل على الفعل وهو "لم"، لا أنَّ كَوْنَهُ مَعْمولاً للفعل وغيرَ معمول يقتضي ما رأيتَ من الفَرْق. أفَلاَ تَرى أنك لو جئتَ بحرْفِ نَفي يُتَصوَّر انفصالُه عن الفعل، لرأيتَ المعنى في "كل" مع تَرْكِ إعمال الفعل مِثْلَه مع إعمالِه؟ ومثال ذلك قولُه [من البسيط]: