قد ترى حُسْنَا وصحَّةَ المعنى معها، ثم إنَّك إنْ جئتَ بها من غير "إنَّ" فقلت: (شواءٌ ونشوةٌ وخبَبُ البازلِ الأمونِ)، لم يكنْ كلاماً. فإنْ كانت النكرةُ موصوفةً وكانت لذلك تَصْلحُ أن يُبْتَدأ بها، فإِنك تراها مع "إِنَّ" أحْسَنَ، وترى المعنى حينئذٍ أَوْلى بالصحة وأمْكَنَ؛ أفلاَ تَرى إلى قوله [من الخفيف]:
ليس بخفيٍّ - وإنْ كان يستقيم أنْ تقول:(دهرٌ يلف شملي بسُعدى دهرٌ صالح) - أنْ ليسَ الحالانِ على سواء. وكذلك ليس بِخَفيِّ أَنَّك لو عمدت إِلى قولِه [من مجزوء الرمل]:
إِنَّ أمراً فادِحاً ... عن جَوابي شَغَلَكْ
فأسقطتَ منه "إِن"، لَعدِمْتَ منه الحسْنَ والطلاوةَ والتمكُّنَ الذي أنتَ واجِدُهُ الآنَ، ووجَدْتَ ضعفاً وفتوراً.
ومن تأثير "إنَّ" في الجملة، أنها تُغْني إذا كانت فيها، عن الخَبر في بعض الكلامِ؛ ووَضَعَ صاحبُ "الكتاب" في ذلك باباً فقال: هذا بابُ ما يَحْسُنُ عليه السكوتُ في الأحرُفِ الخمسة لإضمارِكَ ما يكونُ مستقرًّا لها وموضعاً لو أَظهرتَه. وليس هذا المُضْمَرُ بنفسِ المُظْهَر، وذلك "إنَّ مالاً وإنَّ ولداً وإنَّ عدداً" أي: إنَّ لَهُمْ مالاً؛ فالذي أضمرتَ هو:"لهم" ويقولُ الرجلُ للرَّجل: هلْ لكُم أَحدٌ، إنَّ الناسَ ألْبٌ عليكم؟ فتقول: إنَّ زيداً وإِنَّ عَمراً: أَي لنا. وقال [من المنسرح]:
إنَّ مَحَلاًّ وإنَّ مُرْتَحلاً ... وإنَّ في النفس إِنْ مَضَوْا مَهَلا
ويقول:(إنَّ غيرَها إبلاً وشاءً)، كأنه قال:(إنَّ لنا أو عندَنا غيرَها).
(قال) وانتصبَ (الإبلُ والشاءُ) كانتصاب الفارسِ إذا قلتَ: ما في الناس مثلَه فارساً. و (قال) ومثلُ ذلك قوله [من الرجز]:
يا ليت أيَّام الصِّبَا رواجعا
(قال) فهذا كقولهم: أَلاَ ماءً بارداً: كأنه قال: ألا ماءً لنا بارداً! وكأنه قال: "يا ليتَ أيام الصِّبا أقبلَتْ رَواجعا".