إعلمْ أنهم، وإنْ كان قد قالوا هذا الذي كتبتُه لك، فإنهم لم يَعْنُوا بذلك أنَّ المعنى في هذا هو المعنى في ذلك بعينه، وأنَّ سبيلَهما سبيلُ اللفظَيْن يُوضَعان لمعنى واحد. وفرقٌ بينَ أنْ يكونَ في الشيء معنى الشيء، وبين أنْ يكونَ الشيءُ الشيءَ عَلَى الإطلاق. يُبيِّنُ لكَ أنهما لا يكونان سواءً أنه ليس كلُّ كلام يصلُحُ فيه (ما) و (إلاَّ) يصلح فيه (إنما). ألاَ تَرى أنها لا تَصْلُح في مثل قوله تعالى:{وَمَا مِنْ إلاه إِلاَّ الله}[آل عمران: ٦٢]. ولا في نحو قولنا:(ما أحدٌ إلاَّ وهُو يقول ذاك). إذْ لوْ قلتَ:(إنما مِنْ إلهٍ الله، وإنما أحد وهو يقول ذاك): قلتَ ما لا يكون له معنى. فإن قلتَ: إن سبَب ذلك أنَّ (أحداً) لا يقع إلاَّ في النفي، وما يجري مجرى النفي من النهي والاستفهام، وأنَّ (مِنْ) المزيدة في (ما مِنْ إلهٍ إلا الله)، كذلك لا تكونُ إلاَّ في النفي، قيل: ففي هذا كفايةٌ؛ فإنه اعتراف بأنْ ليسا سواءً لأنهما لو كانا سواءً لكان ينبغي أن يكونَ في (إنما) مِنَ النفي مثلُ ما يكون في (ما) و (إلاَّ). وكما وجدتَ (إنما) لا تصلح فيما ذكرْنا تجدُ (ما وإلاَّ) لا تصْلُح في ضَرْبٍ من الكلام قد صلحتْ فيه (إنما)؛ وذلك في مثل قولك:(إنما هو دِرهمٌ لا دينارٌ). لو قلتَ:(ما هو إلاَّ درهمٌ لا دينارٌ): لم يكنْ شيئاً. وإذْ قد بانَ بهذه الجملة أنهم حينَ جعلوا (إنما) في معنى (ما وإلاَّ) لم يَعْنوا أنَّ المعنى فيهما واحدٌ على الإطلاق، وأن يُسْقطوا الفرْقَ، فإني أُبَيِّن لكَ أمرَهُما وما هو أصْلٌ في كل واحد منهما، بعَوْنِ اللهِ وتوفيقهِ!
إِعْلم أنَّ موضوعَ (إنما) على أن تجيءَ لخَبرٍ لا يَجهلُهُ المخاطَبُ، ولا يَدفعُ صِحَّتَه أو لِمَا يُنزَّلُ هذه المنزلةَ. تفسير ذلك أَنكَ تقولُ للرجل:(إنما هو هو أخوك وإنما هو صاحبك القديم)، لا تقولُه لِمَنْ يَجْهلُ ذلك ويدفَعُ صحَّتَه، ولكنْ لِمَن يَعْلَمُه ويُقِرُّ به. إلاَّ أنك تُريد أن تُنَبِّهَهُ للذي يجب عليه من حقِّ الأخ وحُرْمةِ الصاحبِ. ومثلُه قول الآخر [من الخفيف]: