لم يُرد أن يُعْلِمَ كافوراً أنَّ والدٌ، ولا ذاكَ مما يحتاجُ كافورٌ فيه إلى الإعلام، ولكنه أراد أنْ يُذكِّرَهُ منه بالأمر المعلوم لينْبَني عليه استدعاءُ ما يُوجِبهُ، كونُهُ بمنزلةِ الوالدِ.
ومثلُ ذلك قولُهم:(إنَّما يَعْجَلُ مَنْ يَخْشَى الفَوْتَ) وذلكَ أنَّ مِن المعلوم الثابتِ في النفوس أنَّ مَنْ لم يَخْشَ الفوتَ، لَمْ يَعْجَل. ومِثالُه مِنَ التنزيلِ قولُه تعالى:{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ}[الأَنعام: ٣٦]. وقولُه تعالى:{إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر وَخشِيَ الرحمان بالغيب}[يس: ١١] وقولُه تعالى: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا}[النازعات: ٣] كلُّ ذلك تذكيرٌ بأمرٍ ثابتٍ معلومٍ. وذلك أنَّ كلَّ عاقلٍ يَعْلَم أنَّه لا تكونُ استجابةٌ إلاَّ ممَّنْ يَسْمَعُ ويَعقلُ ما يقال له ويُدْعى إليه؛ وأن مَنْ لم يَسْمعْ ولم يعقِلْ، لم يَسْتجبْ؛ وكذلك معلومٌ أنَّ الإنذارَ إنما يكون إنذاراً، ويكون له تأثيرٌ إذا كان مع مَنْ يؤمِنُ بالله ويَخْشاهُ ويُصدِّقُ بالبعثِ والساعةِ. فأمَّا الكافرُ الجاهلُ فالإنذارُ وتَرْكُ الإنذار معه، واحدٌ. فهذا مثالُ ما الخبرُ فيهِ خبرٌ بأمر يعلمُه المخاطَبُ ولا يُنْكِرُه بحالٍ، وأمَّا مثالٌ ما يُنَزَّل هذه المنزلةَ، فكقوله [من الخفيف]:
ادَّعى في كونِ الممدوح بهذه الصفة أنَّه أمرٌ ظاهرٌ معلومٌ للجميع، على عادة الشعراء، إذا مدحوا أنْ يدَّعوا في الأوصاف التي يَذْكُرون بها الممدوحينَ أنها ثابتةٌ لهم، وأنهم قد شُهروا بها، وأنهم لم يَصِفوا إلاَّ بالمعلوم الظاهرِ الذي لا يَدْفعُه أحدٌ، كما قال [من الطويل]:
لا أدَّعي لأبي العلاءِ فضيلةً ... حتَّى يُسَلِّمَها إليه عِدَاه
ومثلُه قولُهم:(إنما هو أسَدٌ وإنما هو نارٌ وإنما هو سيفٌ صارمٌ)، إذا أدخلوا (إنما) جعلوا ذلك في حُكْم الظاهر المعلومِ الذي لا يُنْكَر ولا يُدْفَع ولا يَخْفى.