للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وممَّا الأمرُ فيه بيِّنٌ، قولُه في باب "ظننْتُ": وإنما تَحْكي بعْد "قلتُ" ما كان كلاماً، لا قولا. وذلك أنَّه معلومٌ أنكَ لا تحكي بعد "قلتُ" إذا كنتَ تَنْحوِ نحْوَ المعنى، إلاَّ ما كان جملةً مفيدةً. فلا تقولُ: قال فلان: "زيدٌ"، وتَسْكتُ. أَللهمَّ إلاَّ أنْ تُريدَ أَنَّه نطَقَ بالاسمِ على هذه الهيئةِ، كأنَّكَ تُريد أَنه ذكَرَهُ مرفوعاً. ومثلُ ذلك قولُهم: إنما يحذف الشيءُ إذا كان في الكلام دليلٌ عليه. إلى أشباه ذلك مما لا يُحصى. فإن رأيتَها قد دخلتْ على كلامٍ هو ابتداءُ إعلامٍ بشيءٍ لم يَعلَمْهُ السامعُ، فلأَن الدليلَ عليه حاضِرٌ معه والشيءَ بحيثُ يَقعُ العِلمُ به عن كَثَبٍ. واعلمْ أنه ليس يكادُ يَنتهي ما يُعَرض بسبب هذا الحرفِ من الدقائِق.

ومما يَجبُ أن يُعْلَم أنه، إذا كان الفعلُ بَعْدها فعلاً لا يصِحُّ إلاَّ مِن المذكورِ ولا يكونُ مِنْ غيره كالتذكُّر الذي يُعْلَم أنه لا يكونُ إلا مِن أُولي الألبابِ، لم يَحْسن العطفُ بـ (لا) فيه، كما يَحْسنُ فيما لا يُختصُّ بالمذكور، ويَصحُّ مِن غَيره. تفسيرُ هذا أنه لا يَحْسنُ أن تقولَ: (إنما يتذكَّرُ أُولو الألبابِ لا الجهالُ). كما يَحْسن أن تقول: (إنما يجيء زيدٌ لا عمروٌ). ثُمَّ إنَّ النفيَ فيما يجيء فيه النفيُ، يتقدَّم تارةً وَيتأخَّرُ أخرى. فمثالُ التأخير ما تَراه في قولك: (إنما يجيءُ زيدٌ لا عمرو). وكقَولِهِ تعالى: {إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: ٢١ـ٢٢] وكقول لبيد [من الرمل]:

إنما يَجْزي الفتى ليس الجَمَلْ

ومثالُ التقديم قولُك: (ما جاءني زيد وإنما جاءني عمرو). وهذا مما أنتَ تعلم به مكانَ الفائدة فيها، وذلكَ أنك تَعَلمُ ضرورةَ أَنَّك لو لم تُدْخِلْها وقلتَ: (ما جاءني زيدٌ وجاءني عمرو)، لكان الكلامُ مع مَنْ ظنَّ أنهما جاآك جميعاً، وأنَّ المعنى الآن مع دخولها، أَنَّ الكلامَ مع مَن غَلِطَ في عين الجائي فظنَّ أنه كان زيداً لا عَمراً.

<<  <   >  >>