للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأمرٌ آخرُ وهو ليس ببعيد، أنْ يَظُنَّ الظَّانُّ أنه ليس في انضمام "ما" إلى "إنَّ" فائدةٌ أكثرُ مِنْ تُبْطِل عملَها حتى تَرى النحويِّينَ لا يَزيدون في أكثر كلامهم على أنها كافَّة. ومكانُها ههنا يُزيل هذا الظنَّ ويُبْطِلُه، وذلك أنك تَرى أنك لو قلتَ: (ما جاءني زيدٌ وإنَّ عَمْراً جاءني)، لم يُعْقَل منه أنك أردتَ أنَّ الجائي عمروٌ لا زيدٌ، بل يكونُ دخول (إنَّ) كالشيء الذي لا يُحتاجُ إليه ووجدتَ المعنى يَنْبو عنه.

ثم اعلمْ أَنك إذا استقريْتَ، وجدْتَها أقوى ما تكونُ وأعْلَقَ ما ترى بالقلب، إذا كان لا يُراد بالكلام بعدَها نفْسُ معناه، ولكنَّ التعريضَ بأمرٍ هو مُقْتضاه، نحو أنَّا نعلم أَنْ ليس الغَرضُ مِن قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب} [الرعد: ١٩] أنْ يَعلَم السامعون ظاهرَ معناه، ولكنْ أن يُذَمَّ الكفَّارُ وأن يُقالَ إنهم مِنْ فرط العِنادِ ومِنْ غلبةِ الهوى عليهم، في حُكْم مَنْ ليس بذي عقْلٍ، وإنكم إنْ طمِعْتُم منهم في أنْ يَنْظروا ويَتذكَّروا، كنتُم كمَنْ طمِعَ في ذلك مِنْ غير (أُولي الألباب). وكذلك قولُه: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: ٤٥]. وقولُه عَزَّ اسْمُه: {إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب} [فاطر: ١٨]. المعنى على أنَّ مَن لم تكن له هذه الخَشْيةُ، فهو كأنهُ ليس له أُذُنٌ تَسمَعُ وقلْبٌ يَعْقِلُ. فالإنذارُ معه كَلاَ إنذارٍ. ومثال ذلك من الشعر قوله [من المديد]:

أَنا لم أُرْزَقْ محبَّتَها ... إنما لِلْعبدِ ما رُزقا

الغرضُ أن يُفْهِمَك مِن طريقِ التعريضِ، أنه قد صار يَنْصَحُ نفسَه ويَعلَمُ أنه يَنْبغي له أن يقْطَع الطمَعَ من وصلها، ويَيْأَسَ من أن يكونَ منها إسعافٌ. ومن ذلك قوله [من البسيط]:

وإنما يَعْذِرُ العشَّاقَ مَنْ عَشِقا

يقولُ إنه ليس ينبغي للعاشقِ أن يلومَ من يَلُومُهُ في عِشْقه، وأنه ينبغي أنْ لا يُنْكَر ذلك منه، فإنه لا يعلم كنْهَ البلوَى في العشق. ولو كان ابْتُليَ به لعرَفَ ما هو فيه، فَعَذَرَه. وقوله [من الكامل]:

ما أنتَ بالسَّبَبِ الضعيفِ وإنَّما ... نُجْحُ الأُمورِ بقوَّةِ الأَسْبابِ

<<  <   >  >>