للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فاليوم حاجتُنا إليكَ وإِنما ... يُدْعى الطبيبُ لساعةِ الأوَصابِ

يقول في البيت الأول: إنه ينبغي أن أَنجحَ في أمري حين جعلْتُكَ السببَ إِليه. ويقولُ في الثاني: إنَّا قد وضَعْنا الشيءَ في موضعه، وطلَبْنا الأمرَ من جهته حين استعنَّا بك فيما عَرضَ من الحاجةِ وعوَّلْنا على فضْلِكَ. كما أَنَّ من عوَّل عَلَى الطبيبِ فيما يَعْرِضُ له من السُّقْم، كان قد أصابَ بالتعويلِ مَوْضِعَه وطلَبَ الشيءَ مِنْ معدنِه.

ثم إنَّ العجَبَ في أنَّ التعريضَ الذي ذكرتُ لكَ، لا يَحصُلُ من دون "إنما" فلو قلتَ: (يتذكَّرُ أُولو الألباب) لم يَدُلَّ على ما دَلَّ عليه في الآية، وإنْ كان الكلامُ لم يتغيرْ في نفسه، وليس إلاَّ أنه ليس فيه "إنما". والسببُ في ذلك، أنَّ هذا التعريضَ إنما وقعَ بأنْ كان مِنْ شأنِ (إنما) أنْ تُضَمِّنَ الكلامَ معنى النفْي مِنْ بَعْد الإثباتِ والتصريح، بامتناع التذكُّر ممَّن لا يَعْقِل. وإذا أُسِقطتْ من الكلام فقيلَ: (يتذكَّرُ أولو الألباب)، كان مجرَّدَ وصفٍ لأُولي الألبابِ بأنهم يتذكَّرونَ، ولم يكن فيه معنى نفْي للتذكُّر عمَّنْ ليس منهم. ومُحالٌ أن يقَعَ تعريضٌ لشيءٍ ليس له في الكلام ذِكْرٌ ولا فيه دليلٌ عليه. فالتعريضُ بمثل هذا، أعني بأن يقولَ: (يتذكَّر أولو الألباب) بإسقاط "إنما"، يقع إذنْ، إنْ وَقَعَ، بمَدْح إنسانٍ بالتيقظ، وبأنه فعلَ ما فعلَ وتنبَّه لِمَا تنبَّه له، لعَقْله ولِحُسْن تمييزه، كما يقال: كذلكَ يَفعلُ العاقلُ وهكذا يَفعلُ الكريمُ. وهذا موضعٌ فيه دقةً وغموضٌ، وهو ممَّا لا يكاد يقَعُ في نفسِ أحدٍ أنه ينبغي أنْ يَتعرَّفَ سبَبَه ويَبْحثَ عن حقيقة الأمرِ فيه.

وممَّا يجبُ لك أن تَجعلَه على ذكْرٍ منكَ مِنْ معاني "إنما" ما عرَّفْتُكَ أولاً مِنْ أنها قد تَدْخُلُ في الشيء على أنْ يُخَيِّلَ فيه المتكلمُ أَنه معلومٌ ويدَّعي أَنَّه مِن الصحَّة بحيثُ لا يَدْفَعُهُ دافعٌ، كقوله:

إنما مُصْعَبٌ شِهابٌ مِن الله

ومن اللطيف في ذلك قول قس بن حِصْن [من الطويل]:

ألاَ أيُّها الناهي فَزارَةَ بعْدَما ... أَجَدَّتْ لغزوٍ، إنما أنتَ حالِمُ

ومن ذلك قولُه (تعالى) حكايةً عن اليهود {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: ١١]، دخلتْ (إنما) لِتَدُلَّ على أَنهم حين ادَّعَوْا لأنفسهم أنَّهمْ مُصْلِحون، أظهروا أنهم يدَّعون مِن ذلك أمراً ظاهراً معلوماً. ولذلك أكَّد الأمرَ في تكذيبهم والردِّ عليهم، فجمع بين "أَلاَ" الذي هو للتنبيه وبين "إنَّ" الذي هو للتأكيد، فقيل: {ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولاكن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: ١٢].

<<  <   >  >>