والذي له صاروا كذلك، أنهم حين رأوْهُمُ يُفْرِدون اللفظَ عن المعنى، ويَجْعلون له حُسْناً على حدة، ورأوْهم قد قَسَموا الشِّعرَ فقالوا إنَّ منه ما حَسُنَ لفظُه ومعناه، ومنه ما حَسُن لفظُه دونَ معناهُ، ومنه ما حَسُن معناهُ دونَ لفظِه؛ ورأوهم يَصِفون اللفظَ بأوصافٍ لا يَصِفونَ بها المعنى، ظَنُّوا أنَّ اللَّفظ مِنْ حيثُ هو لفظٌ، حُسْناً ومزيَّةً ونُبْلاً وشَرَفاً، وأنَّ الأوصاف التي نَحلُوه إياها هي أوصافهُ على الصحَّة، وذهَبوا عمَّا قدَّمْنا شرْحَه مِنْ أنَّ لهم في ذلك رأياً وتدبيراً، وهو أنْ يَفْصِلوا بينَ المعنى الذي هو الغرضُ، وبين الصورةِ التي يَخْرجُ فيها، فنَسَبوا ما كان من الحُسْن والمزيَّةِ في صورة المعنى إلى اللفظ، ووصفوه في ذلك بأوصافٍ هي تُخْبِرُ عن أنفُسها أنَّها ليستْ له، كقولهم إنه حَلْيُ المعنى، وإنه كالوشيْ عليه، وإنه قد كَسَب المعنى دلاً وشَكْلاً، وإنه رشيقٌ أنيقٌ، وإنه متمكِّنٌ، وإنَّه على قَدْرِ المعنى لا فاضلٌ ولا مقصِّرٌ - إلى أشباهِ ذلك ممَّا لا يُشَكُّ أنه لا يَكونُ وصْفاً له من حيثُ هو لفظٌ وصَدَى صوتٍ، إلاَّ أنهم كأنَّهم رأوْا بَسْلا حراماً أنْ يكونَ لهم في ذلك فِكْرٌ ورويةٌ وأن يميزوا فيه قَبيلاً من دَبيرٍ.