فأما قولُه تعالى:{وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمان إِنَاثاً}[الزخرف: ١٩]، فإنما جاء على الحقيقة التي وصفْتُها، وذاك أنَّ المعنى على أنهم أثْبَتوا للملائكة صفةَ الإناث، واعتقدوا وُجودَها فيهم، وعن هذا الاعتقادِ صدر عنهم ما صدَر من الاسْم، أعني إطلاق اسْمِ البنات؛ وليس المعنى أنهم وضعوا لها لفظَ الإناثِ أو لفظَ البناتِ اسْماً من غير اعتقادِ معنًى وإثباتِ صفةٍ. هذا مُحال لا يقُوله عاقلٌ. أما تَسْمَعُ قولَ الله تعالى:{أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}[الزخرف: ١٩]. فإنْ كانوا لم يزيدوا على أنْ أجرَوْا الاسْم على الملائكةِ، ولم يَعْتقدوا إثباتَ صفةٍ ومعنىً بإجرائه عليهم، فأيُّ معنىً لأنْ يقال:(أشْهدوا خَلْقَهم)؟ هذا ولو كان لم يَقْصِدوا إثباتَ صفةٍ، ولمْ يزيدوا على أنْ وضَعوا اسْماً، لما استحقُّوا إلاَّ اليسيرَ من الذَّم، ولما كان هذا القولُ منهم كفْراً، والأمرُ في ذلك أظْهَرُ مِنْ أن يَخْفى.
وجملةُ الأمر أنه إن قيل: إنَّه ليس في الدنيا عِلْمٌ قد عرَضَ للناس فيه مِن فُحْشٍ الغَلطِ، ومن قَبيل التورُّطِ، ومِنَ الذهاب مع الظنونِ الفاسدةِ، ما عرَضَ لهم في هذا الشأن، ظننْتَ أنْ لا يُخْشَى على من يقوله الكَذِبُ. وهل عجَبٌ أعْجَبُ من قوم عُقَلاء يتْلون قولَ الله تعالى:{قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هاذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}[الإِسراء: ٨٨]؟ ويؤمنون به ويدينون بأن القرآن معجزٌ، ثُمَّ يَصدُّون بأوجُهِهم عن برهانِ الإعجاز ودليله، وَيَسْلكونَ غيرَ سبيلِه، ولقَدْ جَنوْا لو دَرَوْا ذاك عظيماً.