وإذا كان كذلك، وَجَبَ أن تعْلَمَ قَطْعاً وضرورةً، أنَّ تلك المزيةَ، في المعنى دونَ اللفظِ. وعبارةٌ أُخرى في هذا بعينِه وهي أن يُقال: قد علِمْنا عِلْماً لا تَعْترِضُ معَه شُبْهةٌ: أنَّ الفصاحةَ فيما نحنُ فيه، عبارةٌ عن مزيَّةٍ هي بالمتكلِّم دون واضِع اللغةِ. وإذا كان كذلك، فينبغي لنا أنْ ننظُرَ إلى المتكلم: هل يستطيعُ أن يَزيد مِنْ عنْدِ نفْسِه في اللفظ شيئاً، ليس هو له في اللغة، حتى يَجعَلَ ذلك من صَنيعِه مزيةً يُعبَّر عنها بالفصاحة؟ وإذا نظَرْنا وجَدْناه لا يستطيعُ أن يصْنَعَ باللفظِ شيئاً أصْلاً، ولا أنْ يُحْدِثَ فيه وصْفاً. وكيفَ وهو إن فَعَلَ ذلك أفسَدَ على نفسِه وأبطلَ أن يكونَ متكلِّماً، لأنه لا يكون متكلِّماً حتى يَسْتَعمِل أوضاعَ لغةٍ على ما وُضِعتْ هي عليه. وإذا ثبتَ من حالِه أنه لا يستطيعُ أن يَصْنع بالألفاظِ شيئاً ليس هو لها في اللغة، وكنَّا قد اجتمعْنا على أنَّ الفصاحةَ فيما نحن فيه عبارةٌ عن مزيةٍ هي بالمتكلِّم البتَّةَ، وجَبَ أن نَعْلَم قطْعاً وضرورةً، أنهم وإن كانوا قد جَعَلوا الفصاحةَ في ظاهرِ الاستعمالِ مِنْ صفةِ اللفظِ، فإنهم لم يَجْعلوها وصْفاً له في نفسه، ومِن حيثُ هو صدى صوتٍ ونطقُ لسانٍ؛ ولكنهم جَعلُوها عبارةً عن مزيةٍ أفادَها المتكلِّمُ، ولمَّا لم تَزِدْ إفادتُه في اللفظِ شيئاً، لم يَبْقَ إلاّ أنْ تَكونَ عبارةً عن مزيةٍ في المعنى.
وجملةُ الأمر أنَّا لا نُوجِبُ الفصاحَة لِلْفَظةٍ مقطوعةٍ مرفوعةٍ من الكلام الذي هي فيه، ولكنَّا نُوجِبُها لها موصولةً بغيرها، ومعلَّقاً معناها بمعنى ما يَليها، فإذا قلنا في لفظه "اشتعل" مِنْ قولِه تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأسُ شَيَبْاً}[مريم: ٤]: إنها في أعلى المرتبةِ من الفصاحة، لم نُوجِبْ تلك الفصاحةَ لها وحَدْها، ولكِنْ موصولاً بها "الرأس" معرَّفاً (بالألف واللام) ومَقْروناً إليهما (الشيبُ) منكَّراً منصوباً.