هذا وإنما يقعُ ذلك في الوهم لِمَنْ يَقَعُ له - أعني أن تُوجَبَ الفصاحةُ للَّفظةِ وحدها - فيما كان استعارةً. فأمَّا ما خَلاَ من الاستعارةِ من الكلامِ الفصيح البليغ، فلا يَعْرِض توهُّمُ ذلك فيه لعاقلٍ أصْلاً. أفلا تَرَى أنه لا يقَعُ في نفس من يَعْقِلُ أدنى شيء إذا هو نظَرَ إلى قوله عزَّ وجلَّ {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العدو فاحذرهم}[المنافقون: ٤]، وإلى إكبار الناس شأنَ هذه الآيةِ في الفصاحة أن يضَعَ يدَهُ على كلمةٍ كلمةٍ منها، فيقولَ إنها فصيحة؟ كيفَ وسبَبُ الفصاحةِ فيها أمورٌ لا يَشُكُّ عاقلٌ في أنها معنويَّةٌ:(أوَّلُها) أنْ كانت "على" فيها متعلقةً بمحذوفٍ في موضِع المفعول الثاني. (والثاني) أنْ كانت الجملةُ التي هي "هُم العدوُّ" بعْدَها عاريةً من حرفِ عطفٍ. (والثالث) التعريفُ في (العدوِّ) وأنْ لم يقل: هُمْ عدوٌّ. ولو أنك علَّقْتَ "على" بظاهرٍ، وأدخلْتَ على الجملة التي هي "هم العدوُّ" حرفَ عطْفٍ، وأسقطْتَ (الألف واللام) من "العدو"، فَقُلْتَ:(يحسَبُون كلَّ صيحةٍ واقعةً عليه، وهُمْ عدوٌّ): لرأيتَ الفصاحةَ قد ذهبَتْ عنها بأسْرها. ولو أنك أخْطَرْتَ ببالِكَ أنْ يكونَ "عليهم" متعلِّقاً بنَفْس الصيحة، ويكونَ حالُه معها كحالِه إذا قلت:(صحْتُ عليه): لأخرجْتَه عن أنْ يكون كلاماً، فضْلاً عن أن يكونَ فصيحاً. وهذا هو الفَيْصَلُ لِمَنْ عَقَلَ.
ومِنَ العجيب في هذا ما رُويَ: عن أمير المؤمنين عليِّ رضوانُ اللهُ عليه أنه قال (ما سَمِعتُ كلمةً عربيةً مِن العَربِ إلاَّ وسمعْتُها من رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، وسمِعْتُه يقول "مات حتْفَ أنفِهِ". وما سمعتها من عَربيٍّ قبله. لا شُبْهَةَ في أنَّ وصْفَ اللفظِ بالعربيّ في مثْلِ هذا، يكون في معنى الوصْف بأنه فصيحٌ. وإذا كانَ الأمرُ كذلك، فانظُرْ: هل يَقَعُ في وهْم مُتوهِّم أنْ يكونَ رضيَ اللهُ عنه قد جعَلَها عربيةً مِنْ أجْل ألفاظِها؟ وإذا نظرْتَ لم تَشُكَّ في ذلك.