للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

واعلمْ أنكَ تَجِدُ هؤلاء الذين يَشكُّون فيما قلْناهُ، تَجْري على ألسنتِهِمْ ألفاظٌ عباراتٌ لا يَصِحُّ لها معنى سِوى توخِّي معاني النحو وأحكامه فيما بَيْن معاني الكَلِم، ثم تَراهُمْ لا يَعْلَمون ذلك. فمِن ذلك ما يقولُه الناسُ قاطبةً من أنَّ العاقلَ يُرتِّبُ في نفسِه ما يُريد أن يَتكلَّم به. وإذا رجَعْنا إلى أنفُسِنا لم نَجِدْ لذلك معنىً سوى أنه يَقْصِدُ إلى قولِكَ (ضَرَبَ) فيجعله خبراً عن "زيدٍ" ويجعلُ الضرْبَ الذي أخْبَرَ بوقوعِه منه، واقعاً على (عمروٍ) ويجعلُ (يومَ الجمعةِ) زمانَه الذي وقَعَ فيه، ويجعَلُ (التأديب) غرَضَه الذي فعَل الضَرْبَ من أجْله، فيقولُ: (ضَرَبَ زيدٌ عَمراً يومَ الجمعةِ تأديباً له). وهذا كما تَرى هُو تَوخِّي معاني النحو فيما بين معاني هذه الكَلِم. ولو أنك فرضْتَ أنْ لا تتوخَّى في (ضرَب) أن تَجْعَلَه خبراً عن (زيد)، وفي (عمرو) أن تجعله مفعولاً به لـ ـ (ضَرَبَ)، وفي (يوم الجمعة) أن تَجْعله زماناً لهذا الضرْب، وفي التأديبِ أنْ تَجعله غَرَض (زيدٍ) من فعلٍ الضرب، ما تصوِّرَ في عقلٍ ولا وَقَع في وهم أن تكونَ مرتِّباً لهذه الكَلِم. وإذْ قد عرفْتَ ذلك، فهو العِبْرةُ في الكلام كلِّه؛ فمَنْ ظَنَّ ظناً يؤدي إلى خِلافِه، ظَنَّ، ما يخرُج به عن المعقول.

ومِنْ ذلك إثباتُهم التعلُّقَ والاتِّصالَ فيما بين الكَلِم وصواحبها تارةً، ونَفْيُهم لها أُخْرى. ومعلومٌ علْمَ الضرورةِ أنْ لن يُتصوَّرَ أن يكون لِلَّفظِةِ تعلُّقٌ بلفظةٍ أُخرى، من غَيْر أنْ تُعتَبَرَ حالُ معنى هذِهِ معنى تِلكَ، ويُراعى هناك أمرٌ يصل إحداهما بالأُخرى، كمراعاةِ كون "نَبْكِ" جواباً للأمر في قوله: (قِفَا نَبْكِ). وكيفَ بالشكِّ في ذلك؟ ولو كانت الألفاظُ يتَعلَّقُ بعضُها ببعضٍ من حيثُ هي ألفاظٌ ومع اطِّراح النظرِ في معانيها، لأدَّى ذلك أنْ يكون الناسُ حينَ ضَحِكوا مَّما يصنَعُه المُجَّانُ من قُرَّاءِ أنصافِ الكتب ضحكوا عن جهالة، وأن يكون أبو تمام قد أخطأ حين قال] من الكامل]:

عذلاً شَبيهاً بالجنونِ كأنما ... قرأتْ به الوَرْهاءُ شَطْرَ كتابِ

لأنهم لم يَضْحكوا إلاَّ من عَدمِ التعلُّقِ، ولم يجعلْهُ أبو تمام جنوناً إلاَّ لذلك، فانظرْ إلى ما يلزَمُ هؤلاءِ القومَ مِن طرائفِ الأمورِ!

<<  <   >  >>