للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وبعد أن يُطوِّف مع القارئ عشرات الشواهد الشعرية التي تعبق بأريحية الوجدان ونجيع الإحساس المتوهج، لعله يفتح ثُقْبةً ينفذُ منها نَظَرُ من ضلَّتْ به باصرتُه، فينحسرُ الديجور وتنقشع الغيوم السوداء، يقف عند مفترق طرق، هو إلى اليأس أقربُ منه إلى الأمل، لأن أبناء جيله وجمهرة العلماء المعاصرين، لا يمتلكون الأداة التي تمكنهم من تصور "أمور خفيَّة ومعانٍ روحانية" كما أنهم لا يمتلكون الطبيعة القابلة والذوق والقريحة التي تتيح لهم الإحساس بالفروق الطفيفة بين معاني الألفاظ ومسار الجمل المتشابهة.

"إنَّ هذا الإحساس قليل في الناس، حتى إنه ليكون أن يقع للرجل الشيءُ من هذه الفروق والوجوه في شعر يقوله أو رسالة يكتُبها، الموقعَ الحسَن؛ ثم لا يعلم أنه قد أَحْسنَ - أما الجهل بمكان الإساءة فلا تعدمه. فلستَ تملكُ إذاً من أمرِكَ شيئاً حتى تظفر بمن له طبعٌ إذا قدحْتَه ورى، وقلبٌ إذا أرْيتَهُ رأى. فأمَّا وصاحبُك من لا يرى ما تُريه، ولا يهتدي للذي تهديه، فأنتَ رامٍ معه في غير مرمىً، مُعَنِّ نفسَك في غير جدوى. وكما لا تقيم الشعرَ في نفس مَن لا ذوق له. كذلك لا تُفهِمُ هذا الشأنَ مَنْ لم يؤْتَ الآلة التي بها يفهم؛ إلاَّ أنه إنما يكون البلاءُ، إذا ظنَّ العادِمُ لها أنه أُوتيَها، وأنه ممن يكملُ للحكْم، ويصح منه القضاء، فجعَل يقول القولَ: لو علِمَ غيَّة لاستَحْيى منه. فأما الذي يحسُّ بالنقص من نفسه، ويعلم أنه قد علِمَ علماً قد أُوتيَهُ مِنْ سِواه، فأنت منه في راحة، وهو رجل عاقل قد حماه عقلُه أن يعْدُو طورَه، أن يتكلَّف ما ليس بأهلٍ له".

ومن جميل ما وقع لي، وأنا أطالع كتاب الأغاني، أنِ "اصْطحَبَ شيخٌ وشبابٌ في سفينة من الكوفة، فقال بعض الشباب للشيخ: إنَّ معنا قَيْنةً لنا، ونحن نُجِلُّك ونُحِبُّ أن نَسْمع غناءها. قال: الله المستعان؛ فأنا أَرْقَى على الأطلال وشأنكم، فغنَّتْ:

حتى إذا الصبحُ بدا ضوؤهُ ... وغارتِ الجوزاءُ والمِرزمُ

أقبلْتُ والوطْءُ خفيٌّ كما ... يَنْسابُ من مكمنه الأرْقَمُ

<<  <   >  >>