قال: فألقى الشيخ بنفسه في الفرات، وجعل يخبط بيديه ويقول: أنا الأرقَم! أنا الأرقم! فأدركوه وقد كاد يغرق؛ فقالوا: ما صنعتَ بنفسك؟ فقال: إني واللهِ أعلمُ من معاني الشعر ما لا تعملون".
إلى هذا النوع من الإحساس الخفيّ قد قصد الجرجاني، يأْنَقُ لها القارئ أو السامع، وتأخذهما الأريحية والانسلاخ من واقع قلق مضطرب إلى حيث الخفقان الملائكي.
لا أظن أن هذا الواقع، خاص بعصر الجرجاني، وذيَّاك الإحساس الفردوسيَّ قد اعترى المؤلف وحده، فقد عانتْ منه مختلف العصور والأزمان، وشكا منه عباقرةُ الأدب واللغة، فعبَّروا عن ذلك بكثير من المرارة .. ألم يشِعْ مثل ذلك في زمن أبي نؤاس، فقال بيته الشهير:
فقلْ لمن يدْعي في العِلْمِ فلسفةً ... حفِظْت شيئاً وغابتْ عنكَ أشياء
وقال الجاحظ خطبته الشهيرة مفتتحاً بها كتابه النفيس "الحيوان" مخاطباً قارئاً جاهلاً أدار عليه أفكاره وآراءه في مقدمة أدبيه فكرية من أغنى ما كتب في موضوعها ... وكذلك فعل أبو الطيب المتنبي الذي اضطرمت فيه نار الغربة في موطنه بسبب شيوع داء الجهل والغباء مع الادِّعاء الباغي فقال، من جملة أشعار كثيرة معبِّرة:
أَذُمُّ إلى هذا الزمانِ أُهيْلَه ... فأعلمُهُمْ فَدْمٌ وأحْزَمُهم وَغْدُ
وستبقى الحال على ما هي، وما كانت عليه، في كل زمان ومكان، لأن هناك دائماً أفراداً أُوتوا من قوة الفهم والذكاء وبعد النظر واستشراف الآفاق واختراق الحجب، ما يجعلهم يثورون على واقعهم ويدعون إلى تغيير المفاهيم السائدة بما يوافق تطلعاتهم ودعواتهم، فتستجيب فئة ويُحجم الباقي، وهكذا إلى ما لا نهاية.