وإذْ قد عرَفْتَ هذا فهو العِبْرَةُ أبداً؛ فبيتُ بشار إذا تأَملْتَه، وجدْتَهُ كالحلقة المفْرَغَةِ التي لا تَقْبَلُ التقسيمَ، ورأيتَه قد صنع في الكَلِم التي فيه ما يَصْنَعُه الصانعُ حين يأخُذُ كِسَراً من الذَّهب فيُذِيبُها، ثمَّ يَصبُّها في قالبٍ ويُخرِجُها لكَ سِواراً أو خلْخالاً. وإنْ أنتَ حاوَلْتَ قَطْعَ بعضِ ألفاظِ البيتِ عن بعضٍ، كنْتَ كمَنْ يَكْسِرُ الحَلْقة ويَفْصِمُ السِّوارَ؛ وذلك أنه لم يُرِدْ أن يُشَبِّهَ النقْعَ بالليلِ على حِدَة، والأسيافَ بالكَواكِب عَلى حدَة، ولكنهُ أرادَ أن يُشَبِّه النقْعَ والأسيافُ تَجُولُ فيه، بالليل في حالِ ما تَنْكَدِرُ الكواكِبُ وتتهاوى فيه. فالمفهومُ من الجميع مفهومٌ واحد. والبيتُ مِن أوله إلى آخرِه، كلامٌ واحدٌ. فانظُرِ الآنَ ما تقولُ في اتحاد هذه الكَلِم التي هي أجزاءُ البيتِ: أتقولُ إنَّ ألفاظَها اتَّحدتْ فصارت لفظةً واحدةً، أمْ تقولُ إنَّ معانيَها اتَّحَدتْ فصارتْ الألفاظُ مِن أجْل ذلك، كأنَّها لفظةٌ واحدةٌ؟ فإن كنتَ لا تَشُكُّ أنَّ الاتحادَ الذي تَراه هو في المعاني، إذْ كان مِن فسادِ العقلِ ومِن الذَّهابِ في الخَبَل أنْ يتوهَّمَ مُتَوهِّمٌ أنَّ الألفاظَ يَندمِجُ بعضُها في بعضٍ حتى تصيرَ لفظةً واحدةً، فقد أراك ذلك إن لم تُكابِرْ عقْلَكَ - أَنَّ النظْمَ يكون في معاني الكَلِم دونَ ألفاظِها، وأنَّ نظْمَها هو تَوخِّي معاني النحوِ فيها. وذلك أنه إذا ثَبَتَ الاتحادُ وثَبَت أنَّهُ في المعاني، فَيَنْبغي أن تَنْظُرَ إلى الذي به اتَّحَدَتْ المعاني في بيت بشار؛ وإذا نظَرْنا لم نجدها اتَّحَدَتْ إلاَّ بأنْ جُعِلَ (مثارُ النقعِ) اسمَ كأَنَّ، وجُعلَ الظرفُ الذي هو "فوقَ رؤوسِنا" معمولاً لـ (مثار) ومعلَّقاً به، وأشرَكَ الأسيافَ في (كأنّ) بعطفه لها على "مثارِ"، ثم بأن قال:"ليلٌ تهاوى كواكِبُهْ": فأتى بالليلِ نكرةً وجعل جملة قوله: (تَهاوَى كواكِبُه): له صفةً. ثم جعل مجموع:(ليلٌ تهاوى كواكبُه) خبراً لكان.