فانظرْ هلْ ترى شيئاً كان الاتحادُ به غيرَ ما عدَّدْناه؟ وهل تَعرِفُ له مُوجِباً سواه؟ فلولا الإخلاد إلى الهُوَيْنا وتركُ النظرِ وغطاءٌ أُلقي على عيونِ أقوامٍ، لكانَ يَنبغي أنْ يكونَ في هذا وحدَهُ الكفايةَ وما فوق الكفايةِ، ونسألُ الله تعالى التوفيق!.
واعلمْ أنَّ الذي هو آفة هؤلاءِ الذين لَهَجُوا بالأباطيل في أمرِ اللفظِ، أنهم قومٌ قد أسلموا أنفُسَهم إلى التخيُّل، وألقوا مقادَتَهم إلى الأوْهام، حتى عدلتْ بِهم عن الصوابِ كلَّ معدلٍ، ودخلَتْ بِهم مِنْ فُحْشِ الغلَطِ في كل مدْخَلٍ، وتعسَّفَتْ بهم في كل مَجْهلٍ، وجعلَتْهم يرتَكِبونَ في نُصْرةِ رأيهم الفاسد القول بكل محال، ويقتحمون في كل جهالة، حتى إنك لو قلتَ لهم: إنه لا يتأتَّى للناظم نَظْمُه إلا بالفكر والروية، فإذا جعلتم النظْمَ في الألفاظ لَزِمَكُمْ من ذلك أن تجعلوا فكْرَ الإنسان إذا هو فكر في نظم الكلام فكْرا في الألفاظ التي يُريد أنْ يَنطِقَ بها دُونَ المعاني: لم يُبالوا أن يَرتَكِبوا ذلك وأن يتعلقوا فيه بما في العادة ومجرى الجِبِلَّة، منْ أنَّ الإنسان يُخيل إليه إذا هُو فكَّر أنه يسمعُها سماعَه لها حين يُخرِجُها مِنْ فيه، وحين يَجري بها اللسانُ. وهذا تجاهلٌ لأنَّ سبيلَ ذلك سبيلُ إنسانٍ يتخيَّل دائماً في الشيء قد رآه وشاهدَهُ، أنَّه كان يرَاه وينظُرُ إليه، وأنَّ مِثالَهُ نُصْبُ عَيْنه، فكَما لا يوجِبُ هذا أنْ يكونَ رائياً له، وأنْ يكُون الشيءُ موجوداً في نفسه، كذلك لا يكونُ تخيُّلُه أنه كان يَنْطِقُ بالألفاظِ مُوجِباً أنْ يكونَ ناطقاً بها، وأنْ تكونَ موجودةً في نفسه حتى يَجْعلَ ذلك سبباً إلى جعل الفِكْرِ فيها.