ومِن أجْل أَنْ كانَ الأمرُ كذلك، رأيت العقلاء كلَّهم يُثْبِتون القولَ بأنَّ مِن شأْنِ الاستعارةِ أن تكونَ أبداً أَبلغَ من الحقيقة، وإلاَّ فإن كان ليس هاهنا إِلا نقْلُ اسْم من شيءٍ إلى شيءٍ، فمِنْ أينَ يَجبُ - ليت شعري - أَن تكونَ الاستعارةُ أبلغَ من الحقيقة؟ ويكونَ لِقَوْلنا:(رأيتُ أَسداً): مزيةٌ على قولنا: (رأيت شبيهاً بالأسد؟)، وقد علِمْنا أنه محالٌ أن يتَغيَّر الشيءُ في نفسِه بأن يُنْقَل إليه اسْمٌ قد وُضِع لِغيره من بَعْد أنْ لا يُرادَ مِن معنى ذلك الاسْم فيه شيءٌ بوجْهٍ من الوجوهِ، بل يُجعلَ كأنه لم يُوضَعْ لذلك المعنى الأصليِّ أصْلاً، وفي أي عَقْلٍ يُتَصوَّر أَنْ يتغيرَ معنى "شبيهاً بالأسد" بأن يُوضَع لفظُ "أسد" عليه ويُنْقَلَ إليه؟
واعلمْ أنَّ العقلاء بَنَوْا كلامَهم إذْ قاسُوا وشبَّهوا على أنَّ الأشياءَ تستحِقُّ الأَسامي لِخَواصِّ معانٍ هي فيها دونَ ما عَداها؛ فإذا أَثْبتوا خاصَّةَ شيءٍ لشيءٍ أَثْبتوا له اسْمَه؛ فإذا جعَلوا الرجُلَ بحيثُ لا تَنقصُ شجاعتُه عن شجاعِ الأَسد ولا يَعدمُ منها شيئاً قالوا:(هو أَسد). وإذا وصَفوه بالتناهي في الخير والخصالِ الشريفة، أو بالحُسْن الذي يَبْهَرُ قالوا:(هو مَلَكٌ). وإذا وصَفُوا الشيءَ بغاية الطِّيبِ قالوا:(هو مِسْك). وكذلك الحُكْم أبداً. ثم إنَّهم إذا استقْصَوْا في ذلك نفَوْا عن المشبَّه اسْمَ جنسِه فقالوا: ليس هو بإنسانٍ وإنما هو أَسدٌ، وليس هو آدميّاً وإنما هو مَلكٌ: كما قال اللهُ تعالى: {مَا هاذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ}[يوسف: ٣١]. ثم إنْ لم يُريدوا أَنْ يُخرجُوه عن جنسِه جملةً، قالوا: هو أسَدٌ في صورةِ إنسانٍ، وهُو ملَكٌ في صورةِ آدميٍّ). وقد خرَجَ هذا للمتنبي في أحْسَنِ عبارةٍ، وذلك في قوله [من الخفيف]:
نحن ركبٌ مِلْجِنّ في زِيّ ناسٍ ... فَوْقَ طيرٍ لها سخوصُ الجِمالِ