للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لا خلافَ في أَنَّ (اليد) استعارة؛ ثم إنَّك لا تستطيعُ أن تزعُمَ أنَّ لفظَ (اليد) قد نُقِلِ عن شيء إلى شيءٍ، وذلك أَنه ليس المعنى على أَنَّه شبَّه شيئاً باليد، فيمُكِنُكَ أن تزعُمَ أنه نقَل اليدِ إليه، وإنَّما المعنى على أَنه أَراد أنْ يُثْبتَ (للشَّمال) في تصريفِها (الغداةَ) على طبيعتِها، شَبَهَ الإنسان قد أَخذَ الشيءَ بيدِهِ يُقَلِّبهُ ويُصرِّفُه كيف يُريد؛ فلما أَثبتَ لها مثْلَ فعلِ الإنسانِ باليدِ، استعارَ لها اليدَ. وكما لا يُمكِنُكَ تقديرُ النقلِ في لفظِ اليَدِ، كذلك لا يمكنْكَ أنْ تَجْعل الاستعارة فيه من صفةِ اللفظِ. ألا تَرى أَنه محالٌ أن تقول: إنه استعارَ لفظَ "اليد" للشَّمال؟ وكذلك سبيلُ نَظائرِه مما تَجدُهم قد أَثبتُوا فيه للشيءِ عُضْواً مِن أعضاءِ الإنسان من أجْل إثباتهم له المعنى الذي يكونُ في ذلك العضو من الإنسان كبيت الحماسة [من الطويل]:

إذا هزَّهُ في عَظْمِ، قِرنٍ تَهلَّلَتْ ... نواجِذُ أفواهِ المنَايا الضواحِكِ

فإنَّه لمَّا جعَل المنايا تضحَكُ، جعَل لها الأَفواهَ والنواجِذَ التي يكونُ الضّحِكُ فيها. وكبيتِ المتنبي [من الطويل]:

خَميسٌ بِشَرْقِ الأرضِ والغَرْبِ زَحْفُهُ ... وفي أُذُنِ الجَوْزاءِ منه زَمَازِمُ

لمَّا جعَل الجوزاءَ تَسْمعُ على عادتهم، في جعْل النجوم تَعْقِلُ، ووصْفِهم لها بما يُوصَف بها الأناسيُّ أثْبَتَ لها الأُذُنَ التي بها يكونُ السَّمْعُ مِن الأناسيِّ؛ فأنتَ الآن لا تسطيعُ أنْ تزعُمَ في بيتِ الحماسةِ، أنه استعارَ لفظَ "النواجذِ" ولفظَ "الأفواه" لأنَّ ذلك يُوجِب المُحالَ، وهو أنْ يكونَ في المنايا شيءٌ قد شبَّهَه بالنواجذِ وشيءٌ قد شبَّهه بالأفواه؛ فليس إلاَّ أَنْ تقول إنه لمَّا ادَّعى أنَّ المنايا تُسَرُّ وتَسْتَبْشِرُ إذا هو هَزَّ السيفَ، وجعَلَها لِسرورها بذلك، تَضْحَكُ، أراد أنْ يُبالِغَ في الأمر، فجعَلَها في صورة مَنْ يَضْحَكُ حتى تَبدوَ نواجذُهُ من شدَّة السرورِ. وكذلك لا تستيطعُ أنْ تَزعُمَ أَنَّ المتنبي قد استعار لفظَ (الأُذُن) لأنه يُوجبُ أن يكون في الجوزاء شيءٌ قد أرادَ تشبيهَهُ بالأذن، وذلك من شَنعِ المُحال.

<<  <   >  >>