فمِنْ أقْرَبِ ذلك أَنك تَراهم يقولون، إذا هُمْ تكلَّموا في مزيَّةِ كلامٍ على كلامٍ: إنَّ ذلك يكونُ بجزالةِ اللفظِ. وإذا تكلَّموا في زيادةِ نظمٍ على نظمٍ، إنَّ ذلك يكونُ لوقُوعِهِ على طريقةٍ مخصوصةٍ وعلى وجهٍ دون وجهٍ، ثمّ لا تَجدُهَم يُفسِّرون الجزالَةَ بشيءٍ ويقولون في المُراد بالطريقةِ والوجْهِ ما يَحْلَى منه السامِعُ بطائلٍ؛ ويقرأون في كُتب البلغاءِ ضُروبَ كلامٍ قد وَصفُوا اللفظَ فيها بأوصافٍ تَعلَمُ ضرورةً أَنها لا تَرْجعُ إليه من حيثُ هو لفظٌ ونُطْقٌ لسانٍ وصدى حرفٍ كقولهم: لفظٌ متمكِّنٌ غيرُ قَلقٍ ولا نابٍ به مَوْضِعُه، وأَنَّه جيِّدُ السبْكِ صحيحُ الطابع، وأنَّه ليس فيه فضْلٌ عن معناهُ وكقولهم: إنَّ مِنْ حقِّ اللفظِ أنْ يكونَ طِبْقاً للمعنى لا يَزيد عليه ولا يَنقُصُ عنه. وكقول بعْضِ مَنْ وصَفَ رجُلاً مِن البُلغاء:(كانت أَلفاظُه قوالبَ لِمعانيه)، هذا إذا مدَحوه - وقَولِهم إذا ذَمُّوه:(هو لفظٌ معقَّدٌ، وإنَّه بتعقيده، قد استَهْلكَ المعنى؛ وأشباهٌ لهذا). ثم لا يَخْطرُ ببالِهمْ أَنه يَجبُ أنْ يُطْلَب لِمَا قالوه معنًى وتُعْلَمَ له فائدةٌ ويَجْشَمَ فيه فكْرٌ، وأن يُعتقدَ على الجملة، أقلُّ ما في الباب أَنه كلامٌ لا يصِحُّ حَمْلُه على ظاهِره، وأن يكونَ المرادُ باللفظِ فيه نطْقَ اللسانِ. فالوصف بالتمكُّن والقَلَق من اللفظ محالٌ، فإنما يتمكَّنُ الشيءُ ويقْلَقُ إذا كان شيئاً يَثْبُتُ في مكان؛ والأَلفاظ حروفٌ لا يوجَدُ منها حرفٌ حتى يعدَمَ الذي كان قبلَه. وقولُهم (متمكِّنٌ أو قَلِقٌ) وصْفٌ للكلمةِ بأَسرها، لا حرْفٍ منها. ثم إنه لو كان يَصِحُّ في حروف الكلمةِ أن تكون باقيةً بمجموعها، لكانَ ذلك فيها مُحالاً أيضاً من حيثُ إنَّ الشيءَ إنما يتمكَّنُ وَيقْلقُ في مكانه الذي يُوجَد فيه، ومكانُ الحروفِ إنما هو الحَلْقُ والفمُ واللسانُ والشفتانِ؛ فلو كان يَصِحُّ عليها أنْ تُوصَف بأنها تتمكَّن وتقْلَقُ، لكانَ يكونُ ذلك التمكُّنُ وذلك القَلَقُ منها في أَماكنها مِنْ الحَلْق والفَم واللسانِ والشفتين.