إلى سائر ما ذكرْناه قبْلُ، فيَعْلمَوا أَنهم لم يُوجِبوا لِلَّفظ ما أوجَبُوه من الفضيلةِ وهُمْ يَعْنُونَ نُطْقَ اللسانِ وأجراسَ الحرُوف، ولكنْ جعَلوا كالمواضَعَة فيما بينهم، أَنْ يقولوا وهُم يُريدون الصورةَ التي تَحْدُثُ في المعنى والخاصَّة التي حَدثَتْ فيه؛ ويَعْنونَ الذي عناه الجاحظُ حيث قال: وذهبَ الشيخُ إلى استحسانِ المعاني، والمعاني مطروحةٌ وسطَ الطريقِ يَعْرِفُها العربيُّ والعجميُّ والحضريُّ والبدويُّ، وإنما الشعرُ صياغةٌ وضرْبٌ من التصوير: وما يعَنونه إذا قالوا إنه يأخُذُ الحديثَ فيُشنِّفُه ويقرِّطُه، ويأْخذُ المعنى خرْزَةً فيردُّه جوهرةً، وعباءةً فيجعلُه ديباجة، ويأخذُه عاطِلاً فيردُّهُ حالياً، وليس كونُ هذا مرادَهم بحيثُ كان ينبغي أن يَخْفى هذا الخَفاءَ ويَشْتبِهَ هذا الاشتباهَ؛ ولكنْ إذا تعاطى الشيءَ غيرُ أهله، وتولَّى الأمرَ غيرُ البصير به، أَعْضَلَ الداءُ، واشتدَّ البلاءُ. ولو لم يكن مِنَ الدليلِ على أنهم لم يَنْحَلُوا اللفظَ الفضيلةَ وهم يُريدونه نَفْسَه، وعلى الحقيقة، إلا واحدٌ وهو وصْفُهم له بأنه يُزَيِّنُ المعنى، وأنه حُلى له، لكان فيه الكفايةُ، وذاك أنَّ الألفاظَ أدلَّةٌ على المعاني، وليس للدليل إلاَّ أنْ يُعْلِمَكَ الشيءَ على ما يكونُ عليه. فأَما أن يصيرَ الشيء بالدليل على صفةٍ لم يكُنْ عليها، فما لا يقوم في عقل، ولا يُتصوَّرُ في وَهْم.