وممَّا إذا تفكَّرَ فيه العاقلُ، أطالَ التعجُّبَ من أمر الناس، ومن شدَّةِ غَفْلتهم، قولُ العلماءِ حيثُ ذكَروا الأَخذَ والسَّرِقة: إنَّ مَنْ أخذَ معنًى عارياً فكَساه لفظاً مِنْ عندِه كانَ أحقَّ به. وهو كلامٌ مشهورٌ متداولٌ يقرأُه الصبيانُ في أول كتاب عبد الرحمن ثم لا ترى أحداً من هؤلاء الذين لهَجُوا بجعل الفضيلةِ في اللفظ يفكِّرُ في ذلك فيقول: من أَين يُتصوَّر أن يكونَ هاهنا معنىً عارٍ من لفظٍ يَدلُّ عليه؟ ثم من أين يُعْقَلُ أن يجيءَ الواحدُ منا لِمعنىً من المعانيِ، بلفظٍ من عنده إنْ كان المرادُ باللفظ نُطْقَ اللسان؟ ثم هبْ أنه يصِحُّ له أن يَفْعلَ ذلك، فمن أَينَ يَجِبُ إذا وَضَع لفظاً على معنىً، أن يصيرَ أَحقَّ به من صاحبه الذي أخذه منه، إن كان هو لا يَصْنَع بالمعنى شيئاً، ولا يُحْدِثُ فيه صفةً، ولا يَكْسِبُه فضيلةً؟ وإذا كان كذلك، فهل يكونُ لكلامهِم هذا وجهٌ سِوى أنْ يكونَ اللفظُ في قولهم:(فكَساهُ لفظاً من عنده) عبارةً عن صورةٍ يُحْدِثها الشاعرُ أو غيرُ الشاعر للمعنى؟ فإن قالوا:(بلى يكونُ! وهو أن يستعيرَ لِلمعنى لفظاً)، قيل: الشأنُ في أنهم قالوا "إذا أَخذ معنىً عارياً فكَساه لفظاً من عِنده كان أحقَّ به" والاستعارةُ عندكم مقصورةٌ على مجرَّد اللفظِ ولا ترَوْنَ المستعيرَ يَصْنَع بالمعنى شيئاً، وتَرونَ أنه لا يحدثُ فيه مزيَّةٌ على وجهٍ من الوجوه؛ وإذا كان كذلك فمِنْ أَين - ليت شعري - يكون أحقَّ به؟ فاعرفه!
ثُمَّ إنْ أردْتَ مثالاً في ذلك، فإنَّ مِن أَحسنِ شيءٍ فيه، ما صنَع أبو تمام في بيت أَبي نُخَيْلة، وذلك أن أَبا نخيلة قال في مسلمَةَ بنِ عبد الملك [من الطويل]: