وإذا قلْنا في العلمِ واللغات مِنْ مبتدأ الأَمرِ، إِنه كان إلهاماً، فإن الإِلهامَ في ذلك، إنما يكونُ بين شيئين يكونُ أَحدُهما مثْبَتاً والآخَرُ مثبَتاً له، أو يكونُ أحدُهما منْفِيّاً والآخَرُ منفيّاً عنه، وأنه لا يُتصوَّر مثُبَتٌ من غَيْر مُثبَتٍ له ومنفيٍّ من غير مَنْفيٍّ عنه. فلما كان الأمرُ كذلك أَوجَبَ ذلك أنْ لا يُعْقَلَ إلاَّ من مجموع جملةِ فعْلٍ واسم، كقولنا:(خرج زيد)، أو اسمٍ واسْمٍ، كقولنا:(زيد خارج). فما عقلْنا منه، وهو نسبةٌ الخُروج إلى زيد، لا يَرجِعُ إلى معاني اللغات، ولكنْ إلى كونِ ألفاظِ اللغات سماتٍ لذلكَ المعنى، وكونِها مُرادةً بها. أفلاَ ترى إلى قوله تعالى:{وَعَلَّمَءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هاؤلاء إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة: ٣١]. أَفتَرى أَنَّه قيلَ لهم:(أنبئوني بأسماء هؤلاءِ)[البقرة: ٣١] وهم لا يَعْرِفونَ المشارَ إليهم بهؤلاء؟
ثم إِنَّا إذا نظَرْنا في المعاني التي يَصفُها العقلاءُ بأنها معانٍ مستنْبَطة، ولطائفْ مستخْرَجةٌ، ويجعلون لها اخْتِصاصاً بقائلٍ دون قائلٍ. كمِثْلِ قولهم في معانٍ من الشعر: إنه معنىً لم يُسْبَق إليه فلانٌ، وإنه الذي فطِنَ له واستخْرَجَه، وإنه الذي غاصَ عليه بفِكْرِهِ، وإنه أبو عُذْرِه: لم تَجدْ تلك المعانيَ في الأمر الأَعمِّ شيئاً غيرَ الخَبر الذي هو إثْباتُ المعنى للشيءِ ونفْيُه عنه. يَدلُّك على ذلك أَنَّا لا نَنْظر إلى شيءٍ من المعاني الغريبةِ التي تخْتَصُّ بقائلٍ دون قائل إلاَّ وجدت الأَصْل فيه والأَساسَ: الإثباتَ والنَّفْيَ، وإن أردْتَ في ذلك مثالاً فانظرْ إلى بيتِ الفرزدق:
وما حملَتْ أُمُّ امرىءٍ في ضُلوعها ... أعقَّ من الجاني عليها هِجائيا