للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإذا كانت العلومُ التي لها أصولُ معروفةٌ، وقوانينُ مضبوطةٌ، قد اشتركَ الناسُ في العلم بها، واتَّفقوا على أنَّ البناءَ عليها، إذا أخطأ فيه المخطىء، ثم أعجب برأيه لم يُسْتطَعْ رَدُّه عن هواه، وصَرْفُه عن الرأي الذي رآه، إلاَّ بعد الجهْدِ، وإلاَّ بعد أن يكونَ حصيفاً عاقِلاً ثَبْتاً إذا نُبِّهَ انْتَبَهَ، وإذا قيل إنَّ عليكَ بقيةً من النظر وقفَ وأصْغى، وخَشِيَ أن يكون قد غُرَّ فاحتاطَ باستماع ما يُقال له، وأنِفَ من أن يلجَّ من غير بيِّنة، ويستطيلَ بغير حُجَّة، وكان مَنْ هذا وصْفُه يَعزُّ ويقِلُّ، فكيف بأنْ تَرُدَّ الناسَ عن رأيهم في هذا الشأنِ، وأصْلُك الذي تردُّهم إليه، وتُعوِّل في محاجَّتهم عليه، استشهادُ القرائحِ وسَبْرُ النفوس وفلْيُها، ما يَعْرِض فيها من الأرْيحية عند ما تسمع. وكان ذلك الذي يَفتحُ لك سمعَهم، ويكشِفُ الغِطاءَ عن أعيُنهمْ، ويَصْرِفُ إليكَ أوجُهَهُم، وهم لا يَضعُون أنفُسَهم موضِعَ منَ يرى الرأيَ ويُفتي ويقضي إلاَّ وعندَهم أنهم ممَّن صفتْ قريحَتُه، وصحَّ ذوقُه وتمَّتْ أداتُه. فإذا قلتَ لهم: إنكم قد أُتيتُمْ مِن أنفْسِكم: رَدُّوا عليكَ مثلَه، وقالوا: "لا بل قرائِحُنا أصحُّ، ونظرُنا أصْدَقُ، وحِسُّنا أَذْكى، وإنما الآفةُ فيكُم لأنكم خيَّلْتُم إلى نَفْسِكم أُموراً لا حاصِل لها.

<<  <   >  >>