للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأوهَمَكُم الهوى والميلُ أنْ تُوجِبوا لأحدِ النظْمَيْنِ المتساويَيْن فضْلاً على الآخَرِ مِن غير أن يكونَ ذلك الفضْلُ معقولاً، فتبقى في أيديهم حَسِيراً لا تَملكُ غيرَ التعجُّب، فليس الكلامُ إذن بمُغْنٍ عنك، ولا القولُ بنافعٍ، ولا الحُجَّةُ مسموعةً، حتى تجدَ مَنْ فيه عونٌ لكَ على نَفْسِه، ومن إذا أتى عليكَ، أبى ذَاك طبعُه فردَّه إليكَ، وفتَحَ سمعه لكَ، ورفَعَ الحِجابَ بينك وبينه، وأخذَ به إلى حيثُ أنتَ، وصرَفَ ناظِرَه إلى الجهة التي إليها أوْمأتَ، فاستبدَلَ بالنِّفار أُنْساً، وأراكَ من بَعْد الإباء قَبُولاً، ولم يكن الأمرُ على هذه الجملةِ إلاَّ لأنه ليس في أصنافِ العلوم الخفيَّةِ، والأُمور الغامضةِ الدقيقةِ، أعجبُ طريقاً في الخفاء من هذا، وإنَّكَ لَتُتْعِبُ في الشيء نفْسَك وتُكِدُّ فيه فكْرَك، وتَجْهَدُ فيه كلَّ جَهْدِك، حتى إذا قلتَ: قد قتَلْتُه عِلْماً، وأحكَمْتُه فَهْماً، كنتَ الذي لا يزالُ يتراءى لك فيه شُبْهةٌ، ويَعرِضُ فيه شكٌّ، كما قال أبو نواس [من الطويل]:

أَلاَ لا أَرى مثْلَ امترائيَ في رسم ... تَغَصُّ به عَيْني ويلفِظُهُ وَهْمي

أتَتْ صُوَرُ الأشياءِ بيني وبينَهُ ... فظَنِّي كَلاَ ظَنِّ وعلمي كَلاَ عِلْمِ

وإنكَ لتنظرُ في البيت دهْراً طويلاً وتُفسِّره ولا ترى أنَّ فيه شيئاً لم تَعلَمْه، ثم يبدو لكَ فيه أمرٌ خفيٌّ لم تكنْ قد علِمْتَه، مثالُ ذلك بيتُ المتنبي [من الكامل]:

عجباً له حِفْظُ العِنَانِ بأنْمُلٍ ... ما حِفْظُها الأشياءَ مِنْ عاداتِها

<<  <   >  >>