وعلى العكس: فربَّ كلمةِ حَقٍّ أُريدَ بها باطلٌ فاسْتُحِقَّ عليها الذمُّ، كما عرفتَ من خبر الخارجي مع علي رضوانُ الله عليه. ورُبَّ قولٍ حَسَنٍ لم يَحْسُنْ من قائله، حين تَسبَّبَ به إلى قبيح، كالذي حكى الجاحظُ قال: رجعَ طاووس يوماً عن مجلس محمد بن يوسف - وهو يومئذ والي اليمن - فقال: ما ظَننتُ أنَّ قولَ "سبحانَ الله" يكونُ معصيةً لله حتى كان اليومُ؛ سمعتُ رجلاً أَبلغَ ابنَ يوسف عن رجلٍ كلاماً، فقال رجلٌ من أهل المجلس: سبحانَ الله! كالمستعظمِ لذلك الكلام، ليُغضِبَ ابنَ يوسف.
فبهذا ونحوه فاعتبرْ، واجْعلْهُ حُكْماً بينك وبين الشعر.
(وبعد) فكيف وَضعَ من الشعر عندك، وكسبَهُ المقتَ منك: أنَّك وجدتَ فيه الباطلَ والكذب، وبعضَ ما لا يَحْسنُ، ولم يرفعه في نفسك ولم يُوجِب له المحبة من قلبك: أنْ كان فيه الحقُّ والصدقُ والحكمةُ وفصْلُ الخطاب؟ وأنْ كان مَجْنى ثمرِ العقول والألباب، ومجتمَعَ فِرَقِ الآداب، والذي قيَّد على الناس المعاني الشريفةَ، وأفادهم الفوائد الجليلة، وترسَّل بين الماضي والغابر، يَنقل مكارمَ الأخلاق إلى الولد عن الوالد، ويؤدِّي ودائعَ الشرف عن الغائب إلى الشاهد، حتى تَرى به آثارَ الماضين، مخلَّدةً في الباقين، وعقول الأَوَّلين، مردودةً في الآخرين، وتَرى لكل مَن رام الأدبَ وابتغى الشرفَ، وطلبَ محاسنَ القولِ والفعل، مناراً مرفوعاً، وعِلْماً منصوباً، وهادياً مُرْشداً، ومُعلماً مسدِّداً، وتجد فيه للنائي عن طلب المآثر، والزاهد في اكتساب المَحامد، داعياً ومُحرِّضاً، وباعثاً ومُخصِّصاً، ومذكِّراً ومعرِّفاً، وواعظاً ومثقَّفاً؟ فلو كنتَ ممن يُنْصِف كان في بعض ذلك ما يُغيِّرُ هذا الرأيَ منك، وما يَحْدوكَ على رواية الشعر وطَلََبه، ويَمنعُكَ أن تَعيبَه أو تَعيبَ به. ولكنك أَبَيْتَ إلاَّ ظناً سبَقَ إليك، وإلا بادىءَ رأي عُنَّ لك، فأقفلْتَ عليه قلْبَكَ، وسدَدْتَ عما سواه سَمْعَك، فَعيَّ الناصحُ بك، وعَسُرَ على الصديق الخليطِ تَنْبيهُك.