وأما النزول فهو ضد العلو، وهو مفضولٌ بالنسبة إلى العلو، اللهم إلا أن يكون رجال الإسناد النازل أجلَّ من رجال الإسناد العالي، وإن كان الجميع ثقات، كما قال وكيعٌ لأصحابه: أيما أحب إليكم: الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود؟ أو سفيان عن منصورٍ عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود؟ فقالوا: الأول، فقال: الأعمش عن أبي وائل شيخٌ عن شيخٍ، وسفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود فقيه عن فقيه، وحديث يتداوله الفقهاء أحب إلينا مما يتداوله الشيوخ.
يقول -رحمه الله تعالى-: "النوع التاسع والعشرون: معرفة الإسناد العالي والنازل" وعرفنا المراد بالعلو والنزول، المراد بالعلو قلة الوسائط بين الراوي وبين النبي -عليه الصلاة والسلام-، والنزول يراد به كثرة الوسائط، كثرة الرواة بين الراوي وبين النبي -عليه الصلاة والسلام-.
يقول -رحمه الله-: "ولما كان الإسناد من خصائص هذه الأمة، وذلك أنه ليس أمة من الأمم يمكنها أن تسند عن نبيها إسناداً متصلاً غير هذه الأمة" قرر ابن حزم في (الفصل) أن اليهود والنصارى فضلاً عن غيرهم ممن تقدمت بهم العهود والقرون لا يستطيعون أن يثبتوا خبراً واحداً عن أنبيائهم بالسند المتصل، بل هذا الأمر من خصائص هذه الأمة، هي التي ضُمن لدينها البقاء إلى قيام الساعة، فاحتيج إلى مثل هذه الخصيصة تبعاً لحفظ الدين، والله المستعان.
يقول:"فلهذا كان طلب الإسناد العالي مرغباً فيه" لا شك أن الإسناد العالي مرغوب عند أئمة الحديث، وذلكم أنه كلما قلت الوسائط قلَّ احتمال الخلل في الإسناد، الإسناد بين الراوي وبين النبي -عليه الصلاة والسلام- ثلاثة احتمال الخطأ والوهم والسهو والغلط فيه أقل من الاحتمال فيما لو كان الإسناد خمسة مثلاً أو ستة؛ لأنه ما من راوي من الرواة وإلا ويحتمل أنه وقع فيه، أو وقع له شيء من ذلك، وإذا كان الأمر كذلك كان الإسناد العالي أرغب من الإسناد النازل.
"كما قال الإمام أحمد بن حنبل: الإسناد العالي سنةٌ عمن سلف، وقيل لحيى بن معين في مرض موته: ما تشتهي؟ قال: بيتٌ خالي، وإسنادٌ عالي" بيتٌ خالي إيش يستفيد من البيت الخالي؟