للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وبأي أسلوب تمت الشورى وتحقق بها إصلاح شؤون الأمة ويتفق مع منهج الله الذي جاءت به شريعته الإسلامية لا تمنعه ولا تختلف معه, ففي عدم تحديد أسلوب معين يلزم الأمة التقيد به حكمة عظيمة وفيه إفساح للإنسان كي يبدع ويجتهد ويبتكر الأسلوب الذي يناسب كل عصر وفي ذلك يقول الدكتور عبد الله بن أحمد قادري: يبدو واضحاً من الأحداث التي ذكرت في دراسة ما سلكه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في أسلوب الشورى وطرق إجرائها - وهي في أحداث قليلة من كثير - أن الشارع الحكيم لم يضع أسلوباً معيناً يلزم المسلمين باتباعه في كل أمر يحدث لهم يحتاجون فيه إلى المشورة, بل ترك الباب مفتوحاً للمسلمين ليتخذوا لكل حدث ما يناسبه من الأسلوب الذي تجري به الشورى, فالأحداث مختلفة منها ما يحتاج إلى رأي شخصٍ واحدٍ ومنها ما لا يكفي فيه إلا شخصان أو أكثر، ومنها ما لا يكفي فيه إلا أهل الحل والعقد بأجمعهم، ومنها ما يقع في ظروف تتعين فيها السرعة والبت في الأمر ويصعب تأجيل ذلك حتى يجتمع أهل الحل والعقد كلهم فيكتفي بالحاضرين، ومنها ما لا ينبغي أن يطلع عليه إلا العدد القليل لأنه خطر يقتضي السرية وعدم النشر، ومنها ما يحتاج فيه إلى ذوي خبرة معينة، وقد يقتضي الأمر استقصاء أراء أهل الحل والعقد في اجتماع واحد, وقد يقتضي الأمر تقسيمهم إلى مجموعات بحيث يؤخذ رأي كل مجموعة على حده، وقد يقتضي أخذ رأي زعماء أهل الحل والعقد فقط, وهكذا تختلف موضوعات الشورى وزمانها ومكانها وأهلها، ولكل مقام مقال ولكل أمر رجال, وقد تحدث في بعض العصور وسائل يكون استعمالها أجدى وأنفع في أسلوب الشورى, وقد حدث في هذا العصر مثلاً سبل جديدة لسرعة المواصلات والاتصالات كما حدثت أنظمة إدارية دقيقة لا يصعب معها مشاورة أهل الحل والعقد كلهم في جميع بلاد المسلمين في الغالب سواءً كان ذلك عن طريق الاجتماعات العامة كالمساجد وقاعات الاجتماعات والمؤتمرات أو عن طريق التقسيمات الإدارية للبلدان، كالمقاطعات والمدن والحارات أو عن طريق المراكز الحكومية كالوزارات والمؤسسات، أو عن طريق التجمعات العمالية كالمصانع ونحوها, أو عن طريق أجهزة الاتصالات المباشرة السمعية والبصرية, كالهاتف والمذياع والتلفاز كل ذلك أصبح ميسراً لا صعوبة فيه ولقد كان حدث اختيار الخليفة يحتاج إلى استشارة أهل الحل والعقد في المدينة وخارجها من البلدان، ولكن ذلك يصعب في ذلك الزمان لصعوبة المواصلات والاتصالات، فاكتفى في ذلك بأهل الحل والعقد الحاضرين في المدينة وما جاورها لأن ذلك هو المستطاع في ذلك الوقت, لذلك حدد الشارع الهدف من الشورى، وهو الوصول إلى الحق والتعاون على تحقيقه بالوسائل الممكنة, كما حدد صفات أهل الشورى وعلاقتهم بولي الأمر، وترك الوسيلة إلى اتخاذ الشورى بدون تحديد معين بل اتخذ وسائل مختلفة لذلك تدل على سعة الأمر في ذلك ليتخذ المسلمون أنفع الوسائل وأنجحها لكل حدث وفي كل زمان ومكان (١).

وقال عبد القادر عودة رحمهُ الله بعد أن ذكر الآيتين الواردتين في الشورى وهما قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (٢) , وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَأهم يُنْفِقُونَ) (٣) , وظاهر من النصين المقررين لمبدء الشورى أنهما عامَّان مرنان إلى آخر حدود العموم والمرونة بحيث لا يمكن أن يحتاج الأمر إلى تعديلهما أو تبديلهما في المستقبل, وفي هذا بيان لما قلناه من أن الشريعة تتميز بصفة الدوام وأنها لا تقبل التبديل والتعديل، ولهذه الاعتبارات اكتفت الشريعة بتقديم الشورى كمبدءٍ عام وتركت لأولياء الأمور في الجماعات أن يضعوا معظم القواعد لتنفيذه لأن هذه القواعد تختلف تبعاً لاختلاف الأمكنة والجماعات والأوقات, فلأولياء الأمور مثلاً أن يعرفوا رأي الشعب عن طريق رؤساء الأسر والعشائر أو عن طريق ممثلي الطوائف أو بأخذ رأي الأفراد الذين تتوفر فيهم صفات معينة إما بطريق التصويت المباشر وإما بطريق التصويت


(١) - انظر الشورى للدكتور عبدالله أحمد قادري ص (٢٢٠).
(٢) - سورة آل عمران: آية (١٥٩).
(٣) - سورة الشورى: آية رقم (٣٨).

<<  <   >  >>