للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

استعمالك إيأهم اختياراً (١). ولا يكن محاباة ولا ايثاراً، فإن الأثرة في الأعمال - أي الاستبداد بلا مشورة - والمحاباة بها جماع من شعب الجور والخيانة لله وإدخال الضرر على الناس, وليست تصلح أمور الناس ولا أمور الولاة إلا بإصلاح من يستعينون به على أمورهم ويختارونه لكفاية ما غاب عنهم، فاصدف لولاية أعمالك أهل الورع والعفة والعلم والسياسة، والصق بذوي التجربة والعقول والحياء من أهل البيوتات الصالحة وأهل الدين والورع فإنهم أكرم أخلاقاً وأشد لأنفسهم صوناً وإصلاحاً وأقل في المطامع إسرافاً وأحسن في عواقب الأمور نظراً من غيرهم فليكونوا عمالك وأعوانك).

ويقول في موضع آخر: (ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر ثم ليكن آثرهم عندك أقوأهم بأمر الحق لك) ويقول أيضاً: (خول في جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله وأنقأهم جيباً وأفضلهم حلماً ممن يبطئ عن الغضب ويستريح إلى العذر ويرأف بالضعفاء وينبوا على الأقوياء ممن لا يثيره عنف ولا يقعد به الضعف). (٢)

وكل ذلك اقتباس من الهدي النبوي ففي الحديث الذي أخرجه الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما خاب من استخار ولا ندم من استشار) (٣). بل إن الحاكم القوي العادل يتقبل النصيحة ويعمل بالشورى ويقرب أهل التقوى والصلاح، كل ذلك من أجل إرساء دعائم العدل وتحقيق المساواة بين الناس؛ لأن العدل والمساواة لا تتحقق من تلقاء نفسها وإنما تتحقق بقيام ولاة الأمر بهما وبحسن اختيارهم لوزرائهم وكبار الموظفين الذي يدير بهم ولاة الأمور شؤون الدولة.

والقاعدة الأساسية في السياسة الشرعية هي إقامة العدل والمساواة فالعدل والمساواة من مبادئ النظام السياسي في الدولة الإسلامية الذي يقيد السلطة العامة في كافة أنشطتها السياسية, لأن الإسلام نظر إلى الناس نظرة واحدة، وفي ذلك يقول المولى جل وعلا: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (٤) ويقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا ونِسَاءاً) (٥).

وروى الإمام أحمد في المسند أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يا أيها الناس إن ربكم واحد لا فضل لعجمي على عربي ولا لعربي على عجمي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى "إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (٦) , وفي رواية (كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان) (٧).

والخلاصة التي تستفاد من هذه الأدلة أن المساواة تكون في جميع مجالات الحياة، فالمساواة يجب أن تتحقق في الوظائف العامة وفي التكاليف العامة وأمام القضاء وفي غير ذلك من مجالات الحياة المختلفة، والمساواة بلا شك أنها أساس العدل وأساس الحكم وأساس الملك، وإقامة العدل في الوظائف العامة وفي المجتمعات لهي من أهم الواجبات المناطة بولاة الأمور، وإذا كان الفقه الإسلامي قد أناط بولاة الأمر إدارة شؤون الدولة ووضع السياسة الشرعية التي تجعل الحاكمية لله والحكم شورى بين المسلمين وتعطى الطاعة لولي الأمر على أساس إقامته للعدل والقسط بين الناس على أساس من شرع الله ومنهجه الذي يسلكه على أساس الاجتهاد في الوصول إلى الحكم الشرعي فيما لم يرد فيه نص من كتاب الله وسنة رسوله فإن تقيد الحاكم بهذه الأمور لا تعني بأي حال من


(١) - وورد في نص أخر لرسالة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه (إختباراً).
(٢) - انظر عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى الأشتر في نهج البلاغة- ص ٣٠٠ إلى ٣٤٨. الطبعة الأولى - القاهرة - دار الكتاب المصري - وبيروت - دار الكتاب اللبناني ١٤١٠هـ - ١٩٨٩م.
(٣) - أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أنس بن مالك يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو حديث حسن أورده السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالحسن حديث ٧٨٩٥.
(٤) - الآية ١٣ من سورة الحجرات.
(٥) - الآية ١ من سورة النساء.
(٦) - انظر مسند الإمام أحمد - مسند الأنصار - حديث ٢٣٥٥٠.
(٧) - انظر الألباني في صحيح سنن أبي داود - كتاب الآداب - حديث ٤٢٦٩.

<<  <   >  >>