فإن أنا لم يحمدك عني صاغراً ... عدوك فاعلم أنني غير حامد
فإن هذا البيت وقعت فيه مقارنتان: إحداهما في ظاهره، والأخرى في باطنه، فوقع في ظاهره المبالغة مقترنة بالتكميل في قوله:" يحمدك عدوك صاغراً "، لأن حمد العدو مبالغة، وكونه صاغراً تكميل، وفي باطن البيت الافتنان مقترن بالإدماج، إلا أن الافتنان فيه مدمج في المبالغة، وذلك أنه لا يقدر على أن يجعل عدو الممدوح يمدحه صاغراً إلا بما يجيد فيه من المدائح التي تدعو استجادتها واستحسانها كل من يسمعها إلى حفظها واللهج بها من صديق وعدو، فيضطر العدو إلى أن يلهج بتلك المدائح المقولة فيه: وهو صغير عند نفسه وعند من يسمعها، يقول: ليس بعاقل من يعادي من يقال فيه مثل هذا فيصغر عند نفسه وعند غيره، ويهون مقداره، وفي ذلك افتخار للشاعر ومدح للممدوح، وهذان فنان: أحدهما مديح، والآخر افتخار، الأول ظاهر وهو المديح، والثاني باطن وهو الافتخار وحصل بسبب ذلك في البيت تعليق لطيف، وهو تعليق صحة مدح الشاعر على مدح عدو الممدوح له صاغراً، فإنه شرط على نفسه أنه ما لم يمدح ممدوحه عدوه فهو غير حامد له.
ومن أحسن ما سمعت في ذلك قول تميم بن مقبل طويل:
لدن غدوة حتى نزعنا عشية ... وقد مات شطر الشمس والشطر مدنف