هذا القلق مؤلم لنفسه، وإنه ليتسرب إليها كأنه حية تطوق فكره ومشاعره، فتحطم بضغطها طموح هذه النفس المتأصل إلى اليقين الصادق.
ومرة أخرى: لحظات مؤلمة، ودقائق مؤثرة بالنسبة لمحمد، ذلك الذي يبحث مستيئساً في نفسه وفيما حوله، عن النبع الخفي الذي تدفقت منه الآيات الأولى من القرآن، وإنه لدعاء حزين لنفس موجعة، وضمير أضناه القلق، دعاء إلى صوت لا يجيب، أو لا يريد أن يجيب، فقد التزم الصت خلال أكثر من عامين.
وإن فكر (محمد) - صلى الله عليه وسلم - ليحاول مناقشة حالته الفريدة، دون أن يجد لها تفسيراً، فهو يغرق في الإعياء، وقد هدّه ما يعانيه من التوتر العصبي، لقد كان يتفانى كأنه شيء خامد سقط في النوم.
ولكن خديجة- الملاك الحارس- كانت تسهر عليه.
وينام (محمد) بعد نوبة من نوبات الانهيار العميق، وكانت زوجه بكلماتها الممتلئة بالحنان الأمومي قد كفكفت منذ لحظات أزمته، بعد أن دثرته في عباءته، وطلبت إليه أن يستريح. نام نوم الطفل الذي أعياه البكاء، وملأ قلبه الشجن، فهدأ بدوره قلق الزوج العطوف، حين لمست من النائم أنفاسه الهادئة، فخرجت بخفة حتى لا توقظه.
ولكن صوت حراء يرن فجأة في أذني النائم فيهب كأنما مسته الحمى ... {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}[المدثر ٧٤/ ١ - ٣].
لقد أصمّه النداء وأضناه مرة واحدة، إذ أن هذه المباغتة جعلته يدرك فجأة أهمية الأمر الذي تلقاه ولم يكن ينتظره.
لقد وجدته خديجة جالساً، غارقاً في تأملاته، فدفعتها الدهشة من استيقاظه إلى أن تسأله:((لم لا تنام يا أبا القاسم))؟.